وهوى الحصان العربي..
كان يا مكان، في قديم الزمان، وفي الصحراء العربية الشاسعة، حِصان عربي أصيل، كان هذا الحِصان يتميز بلياقته ورشاقته وتناسق جسده، فاختاره فارس مغوار دون غيره، فعاش ذلك الحِصان في كنف الفارس، ونعِم بالبحبوحة والرخاء، جمعت الفارسَ والحِصان علاقة مميزة؛ فقد كان الحِصان خليل الفارس في السفر، وحليفه في ساحات الوغى، وأنيسه في ليل الصحراء الموحش، وأصبح الحِصان وسيده كُلاًّ لا يتجزأ، وذاع صِيت هذا الثنائي في كل الأمصار، ولكن يد الزمن طالت الفارس فأمسى هرمًا، وخضع جسده تحت وقع الجراح بعدما نال كمًّا من الحراب والسهام والسيوف خلال معاركه الكثيرة، وبينما تراجعت صحة الفارس، حاول أن يستمر في العناية بحِصانه المخلص، ولكن اهتمامه لم يعد كسابق عهده بسبب ما تكبده من سقم.
وعلى الرغم من وفاء الحِصان لفارسه أيضًا، شعر الحِصان بالمذلة، وبأن هذه المعاملة لا تليق به أبدًا، فحاول في مناسبات عدة أن يتملص من سَرْجه، في هذه الأثناء، كان هناك ثَعلبانِ مكَّاران يتجولان في الأرجاء، وكانا يبحثان عن فريستهما التالية، وبينما هما على هذه الحال لمحا الحِصان الأصيل، سال لعابهما وضحكا بخُبث: "لقد وجدنا فريستنا العظمى!"، ولكن واحدًا منهما تذكر قوة الحِصان فقال: "محال أن نهاجمه؛ فهو يفوقنا حجمًا وقوة بأشواط، إن وثبنا عليه فسيركلنا بحوافره فنلقى حتفنا.."، تنهد الآخر وقال: "أنت مصيب، علينا أن نفكر في وسيلة أخرى كي نستطيع التمكن منه".
مرت الأيام والثَّعلبانِ يراقبان الحِصان عن بُعد، ويخططان للخطوة التالية، وبدون سابق إنذار، تظهر أفعى سامة لهما، فحاولا الابتعاد عنها، ولكنها ظلت تلاحقهما وتضايقهما إلى أن كَلاَّ منها وقالا لها: "ماذا تريدين منا؟ ألا يمكنك أن تدعينا وشأننا؟"، أجابت الأفعى بفحيحها المزعج: "أنتما تريدان الحِصان، وأنا أريد حصة منه"، صاح الثَّعلبانِ باستنكار، ولكن الأفعى قاطعت استنكارهما: "أعطياني حصة ولن أطأ أرضكما، ولن تريَا وجهي بعد ذلك اليوم"، تشاور الثَّعلبان لبرهة، فقررا أن يستجيبا لمطالب الأفعى كي تكف عن مضايقتهما، ثم استمرت الأفعى بابتزازهما: "أريد القلب.."، فصاح الثَّعلبان مرة أخرى: "ولكن القلب هو فخر الفريسة!"، قالت الأفعى لامبالية: "هذا عَرضي، القلب، أو تتحملان وجودي حتى آخر لحظة من حياتكما"، لم يجد الثَّعلبان سوى الانصياع للأفعى كي يأمَنا شرها، فوعداها بأن يعطياها ما طلبته فور تمكنهما من الحِصان.
داوم الثَّعلبان على مهمتهما، ووصلا الليل بالنهار كي يصلا إلى مبتغاهما، ومن خلال مراقبتهما الحثيثة للحِصان، استطاعا أن يعرفا أنه غير راضٍ عن فارسه، في تلك اللحظة، شعَرا بأن الوقت قد حان ليبدأا بالتحرك، فسارا نحوه تحت جَناح الظلام، شعر الحِصان بحركة مشبوهة، فتأهب استعدادًا، وعندما بدا له الثَّعلبان، هم بالصهيل، ولكن الثعلبين صاحا به: "لا تخف، فنحن صديقاك!"، خَفَتَ صهيل الحِصان وقال متعجبًا: "صديقاي؟ منذ متى؟"، تحدث الثعلب الأشد مكرًا بنبرة متعاطفة عقلانية: "لقد رأينا ما يفعله بك سيدك، هذا فظيع! إنه بالكاد يطعمك!"، أجاب الحِصان: "ولكنه لطالما اعتنى بي وآثرني على نفسه..."، قال الثعلب الآخر: "هذا لا يهم؛ فهو هرِم الآن، ومشغول بقضاياه الخاصة!"، قال الحِصان: "ماذا تقترحان؟"، هنا ضحك الثَّعلبان في سرهما؛ فقد علما أن الحِصان قد وقع في شرَكهما، ولكنهما التزما بنبرتهما الجذابة وقالا: "لا تقلق، حريتك أمانة في أعناقنا، أمهلنا بعض الوقت كي نتدبر أمر فرارك من هذا الطاغية إلى جنة تنعَم فيها بالحرية المطلقة".
فرح الحِصان بالعرض المغري الذي قدمه الثَّعلبان، وقرر أن يستغل كل فرصة تسنح له للفرار من الفارس والوصول إلى المكان الذي تحدثا عنه، في الوقت ذاته، كان الثَّعلبان يبحثان عن مكان ملائم للإيقاع بفريستهما، وفي نهاية المطاف، وجدا شعابًا قاحلة وخالية من أي شكل من أشكال الحياة، فقررا أن هذا المكان هو المكان المناسب، من بعد ذلك، عادا للحِصان حاملين البشرى، تحمَّس الحِصان بالخبر، فشد بعزمٍ السَّرج الذي رُبط بجِيده فانقطع، عندها سمع الفارس العجوز صوت الجلبة، فخرج ليستطلع عن مصدره، فرأى الحِصان يعدو بعيدًا خلف الثعلبين، لم يستطع الفارس العجوز اللحاق به، ولأول مرة انهمرت الدموع من عينيه، فحِصانه ورفيق دربه خان وفاءه بعد أن كانا خليلين لمدة طويلة، وعلم أنهما لن يلتقيا مجددًا، كان الحِصان يعدو على أمل أن يصل إلى أرض الحرية الأسمى، ولكنه لم يعرف أن الثعلبين كانا يقتادانه إلى حتفه.
وصل الحِصان والثَّعلبان إلى الأرض التي ظنها الحِصان "جنة"، فوجدها عكس ذلك، صاح بالثعلبين: "أخدعتماني وأخذتماني للشعاب؟"، أجاب الثَّعلبان بكل ثقة: "لا تقلق؛ فأنت هنا سيد نفسك، ولن تحتاج إلى أحد بعد اليوم؛ فشِعابٌ تنعم فيها بالحرية خير من واحة تستعبد فيها!"، من بعد ذلك، فر الثَّعلبان بعيدًا، تاركين الحِصان وحيدًا في غياهب الصحراء، كان الثَّعلبان قد ابتعدا عندما سمعا فحيح الأفعى: "أين الغنيمة؟"، أجاب الثَّعلبان: "أمهلينا بعض الوقت، فعندما يظن الحِصان أنه نال مبتغاه نقوم بمهاجمته على حين غِرة".
وبالفعل، كان الحِصان يعدو بحرية في الشعاب الفسيحة والسعادة تغمره؛ فقد صدَّق المسكين الثعلبين، وراح يستمتع بالحرية الزائفة، وعندما وجد الثَّعلبان أن الحِصان وحيد وبعيد عن الفارس أشد البعد، وثَبَا عليه ومزقاه إِرْبًا، وبما أن الثعلبين كانا شريكين في هذه المهمة تقاسما أجزاء الحِصان، ولكنهما أبقيا القلب للأفعى كما وعداها، بعد ذلك، أقبلت الأفعى، فرمى الثَّعلبان القلب لها فرحين بابتعادها عنهما أخيرًا، وبعيدًا عن أعين الملأ، غرزت الأفعى أنيابها في القلب، فقطر سمها حقدًا، وقررت أن تبقي أنيابها غارزة فيه إلى ما شاء الله..".
صاح صلاح الدين باستنكار: "أهذه هي النهاية؟! لقد اعتدت أن تكون للقصص نهايات سعيدة وليست كهذه!".
أجاب والده: "ليس بعد الآن يا صلاح...، فعليك أن تعلم أن النهايات السعيدة لا تصح إلا في القصص الخيالية، أما في الواقع يا بني، فالحياة قاسية، والعالم تحكمه شريعة الغاب؛ فالقوي يأكل الضعيف، والمخادع يستغل المتهورين المخدَّرين بحُلمٍ نسجه المخادع لهم... ".
• "وما علاقة هذا بقصتنا؟".
أجاب الوالد بنبرة ملؤها الأسى: "هذه القصة هي قصة شعب عربي تمنى الاستقلال عن كيان إسلامي كان جزءًا منه لأكثرَ من أربعة قرون؛ فوثق وتحالف مع الأعداء المخادعين كي ينال مبتغاه، وعندما ظن أنه نال استقلاله، بدَّدت بريطانيا وفرنسا أحلامه الوردية، وانتشلت منه الحكم بالقوة، وأهدت قلبه النابض فلسطينَ إلى اليهود ليكون وطنًا لهم بعد أن لفظتهم الأمم".
سأل صلاح بتأثر: "وإلى متى يستمر هذا الواقع المرير؟".
وهنا أجاب الوالد صلاحًا بكلمات تردد صداها في كيانه: "إلى أن يستفيق ضمير ونخوةُ كل واحد فينا، ابتداءً منك يا بني! ولهذا أسميتك "صلاح الدين"..".
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة