بداية من رحم النهاية
بقلم: سهير علي أومري
مصر
في غمرة التعب والألم وفي غياهب الحزن والسقم يمر في حياتنا أناس لا ككل البشر... أناس يمسحون عنا جراحاً أدمت قلوبنا، وأحزاناً تفطّرت لها أرواحنا، فنحبهم ونتعلق بهم ويصبحون لنا كالماء والهواء، ولا نتخيَّل حياتنا من دونهم، سواء أكانوا أمّاً أو أباً، أو أخاً أو أختاً أو بعض الأصدقاء أو الأقارب أو الأساتذة أو المربين أو حتى الأزواج أو من هم بالنسبة لنا مشروع زواج... يتخطون العلاقة التي تربطنا بهم ليصبحوا لنا كل شيء...
ثم تمضي الأيام في سُنَّتها، ووفق ما أخبرنا عنه رسولنا صلى الله عليه وسلم بأننا مهما أحببنا فإننا لمن أحببنا مفارقون، عندها تصدح مئذنة الحياة أن حيّ على الرحيل، فقطار الحياة يسير، ولابد أن يتابع المسير، وسنن الحياة لا تتوقف ولا تتبدل، وكلُّ إنسان ماضٍ إلى غايته، وأياً كان عنوان الرحيل، وأياً كانت القصة التي نسجت أحداثه وفصوله، المهم أننا نصل إلى يوم نجد فيه أنفسنا واقفين، وبوشاح الوداع ملوّحين.
عندها نشعر أن عجلة الحياة بالنسبة لنا توقفت، ونتمنى لو أن كلمة الفراق تُحذف من قواميس الحياة ومعاجم المعاني... نتردد ونتخبّط ونحاول الوقوف ومعاودة المسير فنقع، ثم نحاول فنقع... ثم نتساءل: كيف لنا أن نستمر في هذه الحياة دون أحبابنا؟! إنه أمر مستحيل!!... كيف لنا أن نبدأ من جديد؟ أن نستأنف حياتنا وقد وصلنا إلى مرحلة انتهى عندها كل ما هو جميل في حياتنا؟
عندها علينا أن ندرك أننا أمام خيارين:
• إما أن نأخذ بالبحث عمن أحببنا بين الناس من حولنا، فنبحث عن أصواتهم بين الأصوات، وعن عيونهم بين العيون... نبحث عن أي شيء يشبههم أو يعيدنا إلى ذكراهم، ولو كان سراباً أو ظلاً... عندها ننشئ علاقات وهمية مبنية على تشابهات وذكريات... فنظلم أنفسنا، ونظلم مَن حولنا، فنخسر الكثير، ونفقد من الناس الكثير... فمن أحببنا لن يتكرروا، ولن يكونوا غيرهم مهما تشابهوا، وإن لكل إنسان في هذه الحياة موقعاً ومكانة تتعلق بصفاته التي لا تتطابق مع أحد قط.... فمن العبث أن نسير في طريق آخرها مسدود ولن تعود علينا إلا بالمزيد من الألم والفشل والصدمات...
• أما الخيار الثاني، فهو أن نتابع حياتنا عازمين أن نجعل من الحب الذي أضاء أرواحنا نوراً ننير به قلوب الآخرين، لا ناراً تحرقنا وتحرق من حولنا، مدركين أن النبتة الصغيرة لا تصبح شجرة كبيرة طالما أنها تنمو في ظل شجرة أخرى تمد عليها ساقها، وتستمد من جذرها غذاءها، وتحتمي بها من برد الشتاء وقصف الرعد وهبات الرياح.... ولكن إن جاءت يد خفية فقطعت الشجرة، صار لزاماً على النبتة الصغيرة أن تواجه الحياة بمفردها... أن تكبر وتنمو وتعيش، فتصير شجرة كبيرة لا تحمي نبتة واحدة مثلها، بل تمتد لتُنعم على من حولها بظلها الوارف وخيراتها العميمة، فتكون مصدر خير ينشر من حولها درس المحبة والعطاء. وهكذا علينا أن نمضي، مستعينين بالله متوكلين عليه ملتجئين إليه، فالله وحده مقلب القلوب، وهو القادر وحده على نجدة قلوبنا وإغاثتها، المهم أن نقرر، وأن نساعد أنفسنا، وأن نشغل أوقاتنا بما ينفعنا، وألا نطيل الوقوف على قارعة الحياة وعلى أطلال الذكريات، بل نوجه قلوبنا لخالقنا، نجأر إليه بالدعاء، ندعوه دعاء المضطر الذي لم يعد لقلبه مؤنس إلا الله، ولم يعد لروحه مأوى إلا في كنف الله، نلوذ به ونحن موقنون أنه سيمنحنا أسباب الصبر والسلوان، ويعوضنا عمن فارقنا عطاء المؤمنين الصابرين الذين وعدهم أن يوفّيهم أجرهم بغير حساب...
عندما ندرك هذا فإننا عندها سنقف في شرفة قطار حياتنا مبتسمين، نرنو إلى ماضينا باعتزاز، ونلوح لمن أحببنا مودعين، ومن محبتهم بخير زاد متزودين، نمضي ونحن نردد ما رواه أبو الدرداء عن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كان من دعاء داود عليه السلام: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك. اللهم اجعل حبك أحب إليّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد» (رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ)
* إعلامية وكاتبة سوريّة مقيمة في مصر.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن