خير نساء هذه الأمة
أودُ أن أعيش معكم بعض اللحظات التي أذهلتني واستشعرت فيها بالعظمة لأنّ بطل هذه المواقف هي أنثى، امرأة لكنّها ممن كمل من النساء. إنها أقرب أمهات المؤمنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النسب، - تشترك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الجد الخامس قصي بن كلاب- وكانت رضي الله عنها أجمل وأشرف وأغنى نساء قريش، كما أنّها تزوجت مرتين قبل النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن قدرها المبارك كان ينسج لها نهاية سعيدة عبر زواجها الأخير من أفضل خلق الله على الإطلاق صلى الله عليه وسلم. وكانت البشرى العظيمة لها رضي الله عنها بشرى من لدن الله عزّ وجلّ ببيتﹴ في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
إنّ الحياة التي عاشها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع السيدة خديجة كانت جميلة جداً وسعيدة ورائعة. ظلّ حاملاً ذكراها إلى حين فتحت مكة... عندما أقرأ ماذا فعلت السيدة الطاهرة لحظة دخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وهو يرتعد خوفاً، أصفر اللون ينادي: زمّلوني زمّلوني، أتصورها كيف سارعت لتغطية وتهدّئ من روعه.. ثم ماذا؟
راح يخبرها عليه الصلاة والسلام- بما جرى معه وأنهى الحديث بقوله:( لقد خشيت على نفسي)، وعنى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خاف أن يكون ظهر له شيطان وأنه سيكون كاهن أو ما شابه، إنه الاضطراب الذي يزعزع النفوس، لقد رأى هولاً مخيفاً وما أدراه ما هو، وهو المرهف الحس، الحنون، النقي التقي صاحب القلب الرحيم.
واسمعوا جواب السيدة الحصيفة:" كلا والله، ما يخزيك الله أبداً".
سبحان الله؟!
أقسمت بالله عز وجل، فنظر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم نظرةً طويلة، أن زيديني يا خديجة، ثبّتي فؤادي، أعيدي الثقة لنفسي، فتابعت مثبتةً دليلها على قسمها هذا. فكانت أول مجتهدة في الإسلام، قالت:"إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق".
فهذه كلها صفات نبيٍ صادقﹴ.. وليس كاهن ولا مجنون، وكل ذا لبٍ، سيؤمن بلا تردد إذا ما أخبر هذا الصادق الأمين أنه بعث نبياً. وهكذا فعل الصدّيق أبي بكر رضي الله عنه.
عندما أقرأ ما قالته وما فعلته، أعظم هذه السيدة الجليلة، لماذا؟
لأنّ أيَة امرأة في العالم، في هكذا موقف، أو أي موقف مفاجئ، كهذا، تذهل وينعقد لسانها وتصاب بالصمم والجمود، فلا عادت تفهم ما يقال لها ولا عادت تستطيع أن تتفوه بكلمة، في الوقت الذي يكون الطرف المصاب في أحوج ما يكون للكلمات والمساعدة.
خالفت هذه السيدة العظيمة ناموس البشر، واستوعبت بكمال ووفور عقلها ما يجري أمامها، وتداركت رعب زوجها وبرده فأسكنته وهدأت من روعه، ثم راح يخبرها فطمأنته.
رضي الله عنك يا أمنا خديجة، موقفك هذا بل كل مواقف حياتك مع سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم هي رائعة، كانت المشجّعة له وخير الزاد مما حفزه على التحمّل والتصبّر، وليت شعري أليس هذا هو المطلوب من كل زوجات المسلمين الآن!!
فالأحرى بكن يا نساء المسلمين أن تعيدوا قراءة سيرة أمّنا خديجة لتستلهموا منها دروس الضياء والنور، تمثُلاً بالأسوة الحسنة هذه.
لقد سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم العام الذي توفيت فيه خديجة بعام الحزن؛ لماذا يا ترى؟
لأنه ما عاد- حين يرجع بيته مثقلاً بالهموم ينوء باضطهاد قومه له، وتعذيبهم صحبه- يجد تلك الابتسامة التي تنسيه الألم وتجدد روح التحدي لديه، ولا تلك النظرة ولا ذاك الكلام المسكِن للآلام. فمن ذا التي ستزيل عنه الشجون؟ وتواسيه بأن الله عز وجل لن يخذلك يا نبي الله! وتقسم على ما تقول!!
غابت وغاب معها الفرح وحل محله الحزن والترح.
امرأة تستحقُ بكل جدارة أن يحبها الرسول صلى الله عليه وسلم كل هذا الحب.
امرأة تستحق أن تغار منها- وهي ميتة- السيدة عائشة رضي الله عنها، وهي من هي في الجمال والصبا والذكاء والعلم والنسب والطهارة...
فالحب هو لخديجة، لأن الله سبحانه رزق رسول الله صلى الله عليه وسلم حبها ولأنها أمُ أولاده ولأنها شريكته في البناء والتأسيس، شريكته في الدفاع عن الحق والذود عن شعلة النور، شريكته في تحمّل الأذى والاضطهاد والألم والعذاب... طلِقت ابنتاها وهاجرتا إلى الحبشة فيما بعد، فتحمّلا ألم الفراق، فراق الأحبة تشاركا ألم الجوع والحصار، بل تشاركا حلم النصر ورؤية تحقيق وعد الله ينجز ودين الله ينتشر في الآفاق.. لكنّ أحد هذين التوأمين رحل قبل جني الثمار وتذوق لذتها، لذة الصبر والتحمل، فماتت محتسبة صابرة؛ أما التوأم الآخر صلى الله عليه وسلم فقد ظهر الحق على يديه وجزاه الله أعظم جزاء لتبليغه الدعوة كاملة.
هذا هو الحب وحده، يا إخوتي، هذا هو أنموذج لحياة زوجية رائعة ملؤها التفاني في التضحية وإسعاد الشريك الآخر، هذه السيدة هي قدوة المسلمات بل المسلمين لأنها سطّرت أمجاداً بمواقف كانت السبّاقة فيها قبل الخلق كلهم إلى الإسلام والإيمان طالبة رضا ربها عز وجل.
وفّقنا الله عز وجل لنحتذي خطاها آمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة