وللنفوس أبجدية
سهير أومري
غريبة هي الحياة بتفاصيلها، تأخذنا أمواجها وتياراتها فنتقلّب فيها من حال إلى حال حتى يغدو تغيُّر الأحوال هو الثابت الوحيد فيها.... نلتقي بأناس ونفارق غيرهم، نجول الأماكن شرقاً وغرباً، وربما كانت أجمل الرحلات تلك التي أبحرنا فيها إلى أعماقنا يوماً...
فتعرفنا فيها إلى ذواتنا وتبصرنا خفايا نفوسنا...
أصغينا إلى صوتٍ كامنٍ فينا ففهمنا لغته وترجمنا حروفه وأدركنا أبعاده....
ثم وقفنا بعدها نعلن انتصارنا بأن استطعنا كسر قيد أمِّيتنا لأول مرة...
فكم من الأيام والأعوام قضينا ونحن نتعلم اللغات والعلوم، ونفك شيفرات الأشكال والرموز ناسين أو متناسين أن أفظع أمية تهدد أمننا واستقرارنا إنما هي أمية فهم أنفسنا!!...
ذلك لأن للنفس لغةً لا تنظمها الحروف والكلمات بل تنظمها المشاعر والتصرفات...
وأول ما يلزم لفهمها حسن الإصغاء إليها، فكم من المرات تجاهلنا صوتها فينا وهو يدندن تارة ويصرخ تارة أخرى!!...
وكم من المرات أصغينا إليها فأنكرنا أو استنكرنا معانيها، فهربنا منها وتجاهلناها، وأدرنا لها ظهورنا، ثم مضينا في حياتنا لا نعرف ماذا نريد ولماذا نريد....
لا نعرف بماذا نشعر ولماذا نشعر...
لا نعرف متى نقبل ومتى ندبر...
لا نعرف متى نقول «نعم» ومتى نصدح بـ «لا» عالية مدوية في وجه رغباتنا وشهواتنا...
تختلط أمامنا الخيارات، وتتشابه في عيوننا الألوان والفصول والأصوات والمسافات، فنسير متخبطين، ننظم القوافي والملاحم، نصور أحزاننا وآلامنا... يأسنا وإخفاقنا... كرهنا لواقعنا وبُغض الناس لنا...
نطلق على أنفسنا مفردات التحطم والانهيار والوحدة والغربة وخيبة الأمل...
دون أن نعلم أننا لم نملك أنفسنا يوماً، بل قضينا حياتنا ونفوسُنا هي التي تملكنا...
تُملي علينا المشاعر فنشعر، والأفعال فنفعل...
وربّ قائل يقول:
وكيف لي أن أتعلم لغة النفس ولم أسمع في حياتي بوجود مدرسةٍ تُعلمها أو كتابٍ يفكّ رموزها؟!
ولكنني أقول:
إن لغة النفس لا تحتاج إلى منهج أو كتاب أو معلّم.... إنها تحتاج إلى:
ساعة تفكُّرٍ نبحر فيها إلى أعماقنا ونحن نركب سفينة دُفَّتها الصدق، وشراعها الصدق، ومجذافها الصدق، ومرساتها أيضاً الصدق... فالصدق وحده الكفيل بفكّ رموز تلك اللغة، وترجمة معانيها..
نبحر في أعماق أنفسنا بصدق...
* فندرك نوايانا ونعرف مقاصد أفعالنا وحقيقة مشاعرنا دون أن تلتبس علينا الأقوال ولا الأحوال...
* نحلل مواقفنا وردود أفعالنا، ونأخذ العبرة من تجاربنا...
* نفتش عن نقاط ضعفنا، دون أن نكابر فنتجاهلها، أو نستسلم فنخضع لها؛ بل نعترف بها، ونواجه بها أنفسنا... ندونها، ونحفظها، ونحدد لأجلها خطوطاً حمراء في حياتنا فلا نقربها، أو نتدارك أمرنا فنبتعد عنها كلما اقتربنا منها، نتقبل وجودها فينا دون أن نتعايش معها ونبررها لأنفسنا أو نجلد أنفسنا فَنَيْأس من صلاحها، بل نجعلها بابنا إلى ربنا، نلجأ إليه تعالى فندعوه ألا يكلنا إلى أنفسنا كي لا تفترسنا، بل يجعل لنا من لدنه قوة نَقوى بها فنُصلح المضغة التي بصلاحها يصلح حالنا.. نصلح قلوبنا ونجعلها خالصة لخالقنا...
تلك هي لغة النفس التي لن تصعب علينا إن صدقنا مع ذواتنا، ولنتذكر قوله تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة: 14 -15).
تلك هي لغة النفس التي نحن مكلفون بإتقانها واجتياز امتحاناتها بنجاح...
ذلك النجاح الذي يضمن لنا الأمن والسكينة في الدنيا والسعادة والطمأنينة في الآخرة...
مصداقاً لقوله تعالى:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)
(الشمس: 7 -10).
* إعلامية، كاتبة سوريّة مقيمة في مصر.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة