لماذا توأد أطفالك يا شام
في العراءِ وجدت نفسها، نحيلةً هزيلة، لا حيلة لها ولا مهرب من واقعٍ تعيشه كل يوم بين أبوين عاجزين عن تقديم الأمان والاطمئنان؛ فهم كذلك لا حيلة لهم، تفترشُ الأرض وتلتحف السماء، تتابع أحاديثها اليومية مع النجوم، تحكي لها قصصاً وهموماً بريئةً تبثها بصوتها العذب، تسافر معهما حيث اللوحة التي رسمتها في مخيلتها لحياةٍ مليئة بالحبِ بعيدة عن ضجيجِ الحربِ، مسائلةً نفسها: هل يمكنني العيش في حياةٍ كتلك التي في مخيلتي؟ سؤالٌ فوق ما تحتمله أحزانها.
تُغمض عينيها اللامعتين مستسلمةً للنوم، متأهبةً لواقعٍ ينتظرها يخالف ذاك الذي رسمته في مخيلتها بعد أن أنهكت رأسها اللطيف بأسئلة لم تجد لها إجابات، أسئلة تحتم عليها أن تكون أكبر من عمرها بسنوات عديدة، فصغيرتي لا تعرف كيف يمكنها تغيير الواقع الذي تعيشه، وكيف تستطيع أن تجمع بين ما تتمنى وبين المخاوفِ التي تسيطر على قلبها الصغير...
كيف لهذا الكائن البريء أن يحمل في داخله الخوف على نفسه والخوف على من حوله؟ طفلةٌ بقلب أُمّ، تقلق على أمها وأبيها وإخوتها وجميع من حولها، باحثةً عن طريقةٍ تستطيع أن تحميهم بها وتبقى معهم بلا تعبٍ ولا نصب.
صوتُ قنبلةٍ متفجرةٍ يلاحقهم من هنا، وبرميلٌ حقودٌ يسقط من هناك، تارةً يختبئون خلف الجدران وتارةً أخرى لا يجدون جداراً قائماً على أركانه يحتمون خلفه فيستسلمون لأقدار الله هلعين مذعورين... وحده هو الذي يسمع استغاثات الضعفاء.
أما عن البردِ والجوع،فقد أنهكا الأجساد البريئة التي لا ذنب لها سوى أنها وُجدت في زمنٍ يأكل فيه الظُلمُ الأبرياءَ ويلتهمُ أفئدة المحزونين... أُمنيّةُ الأطفال في هذا الزمن لم تعد محصورةً بين دميةٍ وأرجوحة، بل أصبحت أسمى أمانيهم أن يناموا بسلام ويستيقظوا بأمان، تحيط بهم أمهاتهم حتى ولو باتوا على الصخر تحت الخيام... لم تعد أحلامهم تمتدُ إلى شطآن المترفين وإنما انقلب الحلم لكسرة الخبز ونظيفِ الملبسِ، ولدفءٍ يغمر أجسادهم من رؤوسهم إلى أخمصِ أقدامهم التي لم تعد تعرف الدفء.
كانت أسمى أماني (هديل)، هذه الطفلة البريئة ذات الأعوام الستة، أن تحيا عزيزةً لا تُثقل مسامع أمها بمطالبها الصعبة (ماما أنا جوعانة طعميني، ماما أنا بردانة دفيني، ماما أين سننام؟)، ولا حيلة لقلب هذه الأم سوى أن ترفع أكف الضراعةِ إليه تعالى داعية قائلة: (فرجك يا الله، رحمتك يا رب)، هذه الأم التي أينما وجهت ناظريها لا ترى سوى الخراب والقتل ولا تعلم المصير الذي ينتظرها وينتظر أبناءها، وهي ترى للموت صوراً لم تكن تسمع عنها.
ذهبت (هديل) في يومٍ كان الهدوء يعم نسبياً الريف السوري حيث تسكن، مع صديقاتٍ لها من عمرها للّعب وسط الدمارِ الذي يحيط بهم، مبتكراتٍ أدواتَ لعبٍ من لا شيء، مع أصواتِ ضحكٍ وحبٍ تملأ المكان وتزهره تدندن تعبيراً عن سعادتها فتستدركها صديقتها متممةً ما بدأت به.
... وإذ بصوتٍ لا يشبه الأصوات، صوت لا يليقُ إلا بالظَلَمةِ المجرمين، لا يليق بأطفالٍ بعمر الزهور، صوت أشبه ما يكون بصوتِ إنذارٍ لحربٍ عالمية... ومن جهة ذلك الصوت تسقط قذيفةٌ مباغتةٌ تكفي لنسف حيٍ كاملٍ... تسقط مع كل حقدها على هذا الجسدِ الطاهر البريء الذي حاول الهرب مسرعاً متجهاً نحو من يحيطه بالحماية... ولكن كانت قذيفة الحقدِ أسرعَ منها، كيف لا وهي رسالة حربٍ على قلب كل طفلٍ، موجهة من قلوبٍ ليست كالقلوب، تنفث غلها على الشجر والحجر والطير والبشر، لتُسقط الطفلة مسلّمةً الروح إلى بارئها، متجهةً إلى الطريقِ الذي رسمته في مخيلتها... لا بل أجمل، ذاهبةً حيث الأمنيات المحققة، تحمل رسالة الطفولة، تاركةً خلفها قلب أمٍ وأبٍ وإخوة يلاحقون طيفها الذي ذهب دون عودة، ذاكرين ماتحب وماتكره، متنسمين عبقها في المكان الذي ملأته برائحةِ الطفولة الجميلة وعطر الأمنياتِ الموؤودة.
حين تُغتال الطفولة، تقف الحروفُ عاجزةً عن التعبير والوصف.
أيها الطغاة! يا من تمتهنون القتل وتتغذون على لحومِ البشر، بيننا وبينكم القضاء الربّاني والحكم الإلهي.
أمَّ الشهيد... لقلبكِ ربٌّ خلقه وهو أرحمُ به.
عصافير الجنان... لروحكم السلام.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة