الإهانة البالغة!
لم أَعرف أني ارتكبت عملاً غير محبَّذ - أنا وأمثالي من القادرات على العمل - عندما أعرضتُ عن العمل بشهادتي الجامعية وقرَّرت التفرُّغ لبيتي وعائلتي، والاهتمام بتربية وتوجيه أولادي، فما حسبتُ اختياري سيئًا، ولا شككتُ لحظةً أن سُلوكي خاطئ، بل كنتُ أراه القرار الأصوَب، والرأي الأحكم، حتى تلقَّيت من صديقاتي ثم من الناس إهانة بالغة، وما تلقَّيتها وحدي؛ فقد تلقَّتها معي كل النساء اللاتي فضَّلن تربية أولادهنَّ وتنشئتهنَّ تنشئة صالحة على الخروج إلى العمل، كان ذلك حين اعتبرت صديقاتي التربية "مهنة وضيعة" لا تليق بخريجة جامعيَّة، ولا تَصلُح لإنسانة مثقَّفة واعية، بدعوى أنها مِهنة روتينية يومية، لا تحتاج إلى خبرة ولا إلى فنٍّ ولا إلى شهادة جامعية، وتستطيع أي خادمة من أي جنسية أن تقوم بها، من أجل ذلك طلبْنَ مني إخفاء مهنتي هذه عن الناس، ومحوَ أثرها، وطمس معالمها بالعمل في التدريس أو في أي "مهنة رفيعة" أخرى! فإذا سُئلتُ: ماذا تعمَلين؟ تجنَّبتُ ذِكرَ مِهنتي الأصلية الوضيعة، وتجمَّلتُ وتفاخرت بأني أعمل معلمة، فأحظى بالاحترام والتقدير، وأفوِّت على نفسي الحرج لو عَلِمَ الناس مهنتي الحقيقيَّة!
والحقيقة - وللأمانة العِلمية - أعترف بأن صديقاتي ما قلنَ لي هذه الكلمات بألسنتهنَّ وأفواههنَّ، إنما قلْنها بعيونهن وسلوكِهنَّ؛ فقد لمستُها في كل كلمة، ولمحتُها في كل نظرة، وشعرت بها في كل لقاء التقيتُهنَّ فيه، فلمَّا صمَّمتُ على البقاء أُمًّا مربية أَسِفْن على مصير شهادتي البائس، ونعَين إليَّ نفسي؛ إذ لا مستقبل لأصحاب مهنتي؛ لأنها ليست عملاً ولا وظيفة أصلاً، إنما هي في رأيهنَّ لا شيء يذكر! فهي مجرد "مهنة وضيعة" لا تُساوي شيئًا، فلا ينبغي علينا - نحن المثقَّفات - إضاعة وقتِنا وإهدار جهدنا في أعمال الخادمات
ورغم أني تلقَّيتُ صدمة قوية عند سماعي هذه الآراء فإني أدركتُ ساعتَها - بجلاء - السرَّ في إقبال الأمهات على العمل خارج البيت، وتبيَّنتُ سبب إسراع الجامعيات وتسابقهن إلى العمل فور تخرُّجهن، وعلَّلتْ لي هذه المفاهيم المعارَضة الشديدة التي قوبلتُ بها عندما فضَّلتُ تربية أولادي على العمل خارجًا بشهادتي، وفسَّرتْ لي "الإنكار" الذي كنتُ أراه في عيون بعض الناس حين كانوا يَنظرون لي ولأمثالي من الأمهات المتفرِّغات شزرًا، وعرفت لماذا يَستهين الناس بمهنتي ويُقلِّلون من شأنها... لكني ما اقتنعتُ بهذا الكلام ولا تأثَّرت بهذه الأفكار، ولا تحولتُ عن تربية أولادي؛ إذ نبَّهتني هذه الإهانة الفظيعة لا إلى سوء اختياري، بل إلى المصير السيئ الذي يَنتظِر أطفالنا إن استمرت الأمهات المثقَّفات في إهمال أطفالهنَّ والخروج إلى العمل، ونبهتني هذه الإهانة البالغة إلى سبب رئيس وأساسي من أسباب فساد الجيل، وإليكم التفاصيل:
ذلك أن التربية هي مسؤولية الوالدَين بشكل أساسي في مرحلة الطفولة المبكِّرة - كما هو معلوم - ولكن التربية لا تقتصر بعد سنٍّ معينة على جهود الوالدين، إنما يتشارك الأفراد المُحيطون بنا كلهم - بشكل مباشر أو غير مباشر - في تربية وتوجيه النشء نحو الأفضل والأحسن والأكمل والأصوب؛ فلعلماء الأمة أثرُهم، وللأساتذة أثرهم، وللصُّحبة أثرها، وللأقرباء دورهم.
فنمو الشخصية هو حصيلة تفاعل الميراث الفِطري البيولوجي للفرد مع بيئته؛ إذ يولد الطفل جاهلاً المبادئَ والقيم والعادات، ثم تتبلور في نفسه مع مرور الأيام أفكار والدَيه عن الصواب والخطأ، وعن الخير والشر، ونظرتهما العامة إلى الحياة، حتى إذا كبِر واتَّسع محيطه الاجتماعي صار عرضة لمؤثِّرات أخرى تأتيه من المدرسة ومِن رفاقه في اللعب، وممَّا يراه أو يقرَؤُه أو يَسمعه أو يطَّلع عليه؛ فالعلاقة بين الطفل وما حوله علاقة تفاعُل.
وللمُجتمَع الكبير الذي نعيش فيه أيضًا دوره الهامُّ في عملية التربية - كما هو مفروض - بما يوفِّره من نشاطات ومؤسَّسات تُساهم في تحقيق الأهداف التي يَصبو إليها، وبواسطة الوسائل التي يستخدمها المجتمع.
وينشأ كل فرد تحت هيمنة نظام ثقافي معيَّن، يهدف إلى إعدادهم للحياة، وتعديل شخصياتهم ليكونوا أفضل وأكثر فعالية وإنتاجًا.
وقد كان الأنبياء بتوجيهاتهم وبالأخلاق والقِيَم التي دعَوْا إليها مربِّين للناس، وباختتام النبوة انتقلت هذه المهمَّة إلى الدعاة والمصلحين والمعلِّمين.
لكن المجتمعات العربية والإسلامية لم تعُد ْقادرة على القيام بدورها التربوي على الوجه الأكمل لأسباب كثيرة، وانشغل علماءُ الأمة بأمور متنوعة، وتقاعسَت المؤسَّسات عن تقديم الخِدمات، وأعلنت المدارس عجزها عن أداء واجبِها على الوجه الأمثل؛ بسبب كثرة عدد الطلاب، واكتظاظ المناهج، وتحميل الأساتذة أعباءً تفُوق وقتهم وقدرتهم... وانشغل الآباء عن التربية في تأمين لقمة العيش، فبقي العبء كلُّه على الأم بمُفردها، وتوجَّب عليها بالتالي أن تقوم بالتربية وحدها بالأصالة عن نفسها، وبالنيابة عن والد الأولاد، وعِوَضًا عن المدرسة، وبدلاً عن المجتمع، بل توجَّب عليها أن تتنبَّه للانحرافات والمفاسد المُنتشِرة، وتحمي أولادها من الانجراف معها، وتَقيهم من تأثيراتها.
وتعيَّن على الأم - بناءً عليه - أن تتفرَّغ لعملية التربية، وأن تعتني بدينها وبأخلاقها وبثقافتها...؛ لتكون قدوة حسنة، ولتكون أمًّا قوية قادرة على الوقوف في وجه التحديات التي تهدف إلى إفساد أبنائنا، وإبعادهم عن دينهم، ولتكون أمًّا قادرة على القيام بدورها كاملاً دون تقصير أو إهمال، وبدور غيرها قدْرَ الإمكان.
وما تزال بعض الأمهات يتحمَّلن - وحدهن - أعباء التربية العظيمة الثقيلة، ويقُمن بواجباتها، لكن أغلب الأمهات انصرفْنَ عن الاهتمام بهذه "المِهنة الوضيعة" - أي التربية! - إلى الاهتمام بـ: "المِهَن الرفيعة" بعد سماعهنَّ هذه الإهانة المريعة: "تربية النشْء عملية وضيعة".
وكانت الإهانة بالغةً لدرجة كبيرة، حتى إن أغلب الأمهات (ومنهنَّ المثقَّفات الواعيات) خرجْن إلى العمل، ورفضْن أن يكنَّ مجرَّد أمهات! أو شغلْن أنفسهنَّ بأي هواية أخرى، أو أي نشاط اجتماعي، أو أي صارف للوقت والجهد سوى التربية ولو كان فارغًا! الأمر الذي حوَّل جهود أولئك الأمَّهات إلى أعمال أقل أهمية، وجعلهنَّ مُهمِلات لتوجيه أولادِهنَّ، غافلات عن أهمية دورهنَّ في تقويم الناشئة، جاهِلات أساليب التربية السليمة، مُعرِضات عن تعلم ومِن ثَمَّ إتقان فنون ومهارات التربية...، وكان - للأسف - ذلك التمرُّد وهذا التملُّص بعد أن أصبَحَ عبء التربية عليهن وحدهنَّ، وبعد أن أضحى الجيل بأمسِّ الحاجة إليهنَّ، فبقي الجيل دون تأسيس متين، وكبِر دون إرشاد ودون عناية؛ فهو يتصرَّف بفطرته تارة، وحسب أهوائه تارة، وبإرشاد من زملائه تارة...، وإذا نحن أمام جيل عملَت وسائل الإعلام المختلفة على توجيهِه، وساهمت كل الفرق في تشكيل دِينِه ومبادئه، وشارك كل قرين له في تربيته وتعليمه السلوك والأخلاق.
ومِن هنا تظهَر خطورة الاستِخفاف بمهنة الأمومة، وتركها إلى غيرها، ويتبيَّن لنا ضرورة الاهتمام بهذه المِهنة واحترامها، وتشجيع الأمهات على العمل بها...، وسأُتابع في المقالة القادمة الحديث في هذا الموضوع، وسأَترُك بعدها لضمير القارئ تقديرَ قيمة وأهمية مهنتي!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة