مواقفٌ ليس لها نظير
لا شك أن متصفِح السيرة النبوية العطرة، لا بدّ وأن تستوقفه حادثات تذهله فتأخذ بيده لينهل من معينها الذي لا ينضب حتى يرتوي بل حتى ينبت الزهر ويؤتي ثمراً يظل لحلاوته ذائقاً مدى الدهر...
والذي أكرمه ربه عز وجل، فأنزل عليه القرآن، لا بد وأن تكون سيرته حاوية لبعض صفات الكتاب الكريم؛ وأعني بذلك حلاوة القرآن ومجانبة قارئه وتاليه الملل والسأم. بل الرحّال الذي كلما أنهى ختمة القرآن عاد من جديد ليختمه، فلا يجد له تكراراً أو مللاً إنما يراه جديداً بجديد، تتكشف له أسرارٌ وفتوحات ومعاني جديدة مع كل رحلة فتطيب نفسه ويرغد عيشه، ويقول هل من مزيد من تلك النفحات يا ربي!
وكذلك الأمر يحدث مع دارسي السيرة النبوية الشريفة، التي تزخر بالمواقف البطولية الفريدة التي ليس لها نظير في كل تاريخ البشرية، والأخبار الثابتة هذه لو حاولت أن تحصيها لما استطعت لتنوّعها وفرادتها.. حتى أن مسلم هذا الزمان يكاد يشبّبهها بالأساطير أو الخرافة حاشا وكلا.
ما لفت نظري كثيراً في هذا السياق، بعض الحوادث التي أثلج الله عز وجل فيها صدور قوم مؤمنين، وأذهب بها غيظ قلوبهم وثبّت بها قلب نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم وأراه النصرة القاهرة الجبارة على أعداء دعوته ممّن تزعم الحرب الضروس وحاول الفتك بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه في بدء مرحلة الدعوة إلى الله تعالى، يريد بذلك النيل منها والقضاء عليها في مهدها قبل أن تنتشر في الأصقاع انتشار النار في الهشيم.
ومن يعش مع رحلة الدعوة خطوة خطوة ويوماً بعد يوم بصدق وإخلاص تحيط به نفس المشاعر التي عاشها النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، وتكتنفه نفس الظروف لدرجة أنه يهتمّ ويغتمّ حال الاضطهاد والتعذيب، ويناله نصيب من الألم وحال النصر الرباني وكشف الغمّة تراه فرحاً مسروراً شاكراً الله على نصره وتثبيته للمؤمنين..
وهاك موقف رائعٌ انتقم فيه رب العزة الجبار من امرأة مشركة متوحشة اسمها أم أنمار، كان الصحابي الجليل خباب بن الأرت، يعمل لديها في صناعة السيوف، ولكنه عندما أسلم لله تعالى، أذاقته صنوف العذاب بل لشدة ظلمها وظلام قلبها المتآكل من الحقد، راحت تأخذ الحديد المحمّى الملتهب فتضعه فوق نافوخ خباب فيحرقه ويشويه! وهو صابر على الألم محتسب الأجر، لا يرضى عن الله ورسوله ببديل!
مفزعٌ هذا الشر، رهيب هذا الحقد الأعمى. أعماها وأوصلها جهنّم. تحرق هذا المؤمن فيكتم زفرات أنينه رغبة في ألا يدعهم يشمتون الإسلام.
لله درك خباباً، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لك وعليهم؛ فما هي سوى أيام حتى أصيبت تلك الكافرة بسعار عصيب وغريب جعلها تعوي مثل الكلاب، وكان علاجها هو أن يكوى رأسها بالنار صباح مساء!.. إنه العدل المنتقم.
وهنا حادثة مغبطة لنا. تثلج الصدر لكن البطل فيها سيدة قرشية مؤمنة وعدوها رجلٌ قرشيٌ كافرٌ لئيم، ونعني بها الصحابية العظيمة أم الفضل زوجة العباس رضي الله عنهما؛ عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وعدوها هو أخو زوجها، أبو لهب.
وفيها أن العباس وزوجته بقيا في مكة كاتمين إسلامهما، ليتعرفا على أسرار المشركين ويوافيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها. ولما دارت معركة بدر وجاءت الأخبار بهزيمة قريش، أوصت أم الفضل بنيها ومولاها أبا رافع أن يكتموا فرحتهم عن كفار قريش، لكن أبا رافع أبدى فرحته بانتصار المسلمين فلم ينج من بطش أبي لهب. فضربه على مرأى من سيدته، هنالك انتفضت أم الفضل كاللبؤة وانقضت على أبي لهب صائحة:( استضعفته إذ غاب عنه سيده)، وضربته بعمود من أعمدة البيت فشجّت رأسه شجّة قاتلة لم يعش بعدها إلا سبع ليال.(2)
لله أبوك أيتها الصحابية العظيمة، وتبت يداك أبا لهب كم كنت صغيراً في عينها وكيف أخذت بثأرنا منك يا عدو الله.
وأدخل السرور لقلبي، ما فعله الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة، الحارس الشخصي للرسول صلى الله عليه وسلّم قبل أن تنزل آية العصمة الإلهية..
حيث جاء موفد قرشي عروة بن مسعود إلى الرسول محاولاً ثنيه عن دخول مكة قبيل حدوث صلح الحديبية. فلما تكلم عروة أخذ بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم والمغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فضرب يده بنعل السيف وقال له: أخِر يدك عن لحية رسول الله، مرة وثانية وثالثة، فرفع عروة رأسه؛ فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة! وكان عروة عمّ المغيرة.. ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه وقال لقومه عندما عاد:( فوالله ما تنخّم رسول الله نخامة إلا وقعت في كفِ رجل منهم فدلّك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُون النظر إليه تعظيماً له، والله ما رأيت ملكاً قط يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمداً).
جزاكم الله تعالى يا صحابة رسول الله خير ما جزى بشراً، نعم الأخلاء كنتم ونعم القدوة للأجيال القادمة أنتم، بكم يقتدي العاقل اللبيب وبهديكم يستضيء الحيران الضائع الذي أضاع تراثه وكنز أجداده وراح يبحث في القمامات وكأنّ تاريخ أمتنا لا يملأ عينيه ألا ضيّع الله من ألبس على المسلمين أمر دينهم وهيبة رسولهم وجلالة قدر صحابة نبيّهم.
ترى اليهود يرجعون أمر ديانتهم المحرّفة إلى تفسير صحف موسى عليه السلام وإلى تلاميذه الأسباط! وتسمع النصارى يمتثلون ما أمر به الدخيل على الديانة المسيحية ومحرّفها الأول اليهودي بولس. وتقوم أسس ديانتهم الآن على التغييرات الجوهرية التي تزعمها هذا التلميذ بزعمهم.
ونحن لا نقول لكم أن صحابة نبيِنا غيّرت دين الإسلام ولا حرّفته بل العكس تماماً. نقلت لنا بكل أمانة وبمطلق الوصف جزئيته وكليته. الحياة التي عاشها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم . فكنا مسلمين جاهزين بفضل الله عز وجل، وأن الله تعالى اصطفى هؤلاء الرجال ليحفظ الإسلام ودين المسلمين اللاحقين.
أفلا نرد لهم جزءً بسيطاً من هذا المعروف الذي فعلوه لنا؟ ألا نذكرهم لأطفالنا ولا أقول انسجوا الخيال عنهم نسجاً وبالغوا في نقل سيرتهم لأن حكايتهم بحدّ ذاتها عظيمة رائعة لا تحتاج تلويناً وتزويراً وتضخيماً وتأليفاً كما ادعى غيرنا عن تلاميذ أنبيائهم، ولكن المطلوب منكم يا حفدة الصحابة أن تزيلوا الردم عن حياتهم وتشمّروا السواعد لرد الأباطيل عن تاريخهم المجيد وأن تذروا الرماد في وجوه أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتدحضوا باطلهم بحقهم عليكم، وبحق نبيكم عليكم، لأنّ الذي يتهم الصحابة فهو يتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا هو الهدف اللا منظور من وراء الهجمة البربرية المستعرة، والله حافظ نبيه وصحابته دائماً وليس بحاجة لنا سبحانه وتعالى، ولكن نحن الذين بحاجة لذلك لأن الأجيال التي نربّيها ستسألنا عن تقصيرنا ولو بعد حين، ولان حين مناص، ولات ساعة ندم...
هوامش:
(1) أنظر حياة الصحابة، ج 1، ص: 547.
(2) انظر رجال حول الرسول، خالد خالد، دار الجيل، 1996م، بيروت، ص: 251.
(3) انظر شخصية المرأة المسلمة، د. محمد علي الهاشمي، دار البشائر الإسلامية، ط 3، 1996م، بيروت، ص: 72.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن