علامات محبة الله عزّ وجلّ
إن من أسماء الله عزّ وجلّ "الحق"، فمن من العقلاء لا يحبّ الحق؟! أليس وظيفة العقل البحث عن الحق؟ حتى إذا وجده تراه سرعان ما يتشبث به ويعتنقه، أما الإنسان الذي غطت شهواته عقله وهيمنت عصبيته على موازين فكره، وسيطر كبرياؤه على منطقه العقلاني.. هذا الإنسان لا يحب الحق، ولا يبحث عنه، لذلك تراه يلوي رأسه ذات اليمين آناً وذات الشمال آناً، ويستوحش عندما تحدثه عن الله وعن الدلائل العلمية على وجوده ووحدانيته، لأنه أسير شهواته وأهوائه، وهذا الصنف من الناس ينطبق عليه قوله تعالى:﴿النّاس من يجادل في الله بغير علمﹴ ولا هدىً ولا كتابﹴ منير* ثاني عطفه ليضلَ عن سبيل الله بغير علم﴾[الحج: 8-9].
ونحن في هذا المقال المتواضع لا نتوجه بالحديث إلى هذه الفئة من الناس، وإنما إلى من يسعى جاهداً إلى محبة الله عزّ وجلّ.
إن محبة الله عز وجل قائمة في نفس كل واحد منا، ولعلنا نستنكر سؤال من يسألنا: هل تحبّ الله عز وجل؟ ونسارع إلى الإجابة ولسان حالنا يقول: وهل عندك شك في ذلك؟
ولكن حين نستمع إلى قوله عز وجل [آل عمران: 31]:﴿قل إن كنتم تحبّون الله فاتَبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفورٌ رحيم﴾ ندرك أن على من يدّعي أنه محبٌ لله تعالى أن يتبنّى في كيانه وجوارحه دلائل دعواه.
فالآية الكريمة تخبرنا أن الدليل على صدق هذه الدعوى- محبّة الله- تتمثل في اتباعنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وسنّته ومنهجه.
فالآية تقول:﴿قل﴾ أي يا محمد، ﴿إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني﴾ أي فاتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنكم إن فعلتم ذلك لم تثبتوا فقط الدليل على حبكم لله، بل تثبتون أيضاً الدليل على حبّ الله عزّ وجل لكم أيضاً.
وهذا الكلام الرباني يدلّنا على أن الحبّ شيء، والاتباع شيء آخر، فالحبّ- كما عرّفه بعضهم- شعور في القلب وانجذاب من المحبّ نحو المحبوب على وجه الاستئناس به والركون إليه، ولهذا الحب ثمار وآثار، وآثار الشيء غير الشيء نفسه، فآثار الحبّ هو الانصياع لمن تحبّ والسير على نهجه ومنواله.
عندما نتتبع سيرة السلف الصالح- وحياة الصحابة خاصة- نجد آثار هذا الحبّ متجلّية في كل أحوالهم، بل نجد انصياعاً عجيباً، وخضوعاً تامّاً لله ورسوله، فما الفرق إذن بيننا وبينهم فيما يتعلق بحبّ الله جلّ وعلا؟.
من ناحية الإيمان العقلي، نحن والصحابة- رضوان الله عليهم- سواء، ولا يمكن أن نقول إنّ إيماننا بوجود الخالق ونبوة رسوله، ووجود ملائكته.. الخ أقل من إيمان الصحابة، وليس لدينا أدنى شك في كل ما يتعلق بمستلزمات هذا الإيمان، وإلا كنّا متشككين ومرتابين، ومع ذلك فإنَ الصحابة- رضوان الله عليهم- أكثر تمسُكاً بكتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم منّا. إذن هناك سرٌ دفع الصحابة لاتباعه صلى الله عليه وسلم حتى في الشدائد، بل فدوه بأرواحهم.. فما هو هذا السرّ؟.
إنه الحبّ.. أولئك الصحابة أحبّوا الباري عزّ وجلّ، ومن ثمَ تفرّع عن حبهم لله حبُهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، فحركت هذه المحبة قلوبهم وساقتهم سوقاً إلى التمسك بهديه. أما نحن فقد فقدنا هذا الحبّ وفاضت أفئدتنا بدلاً عنه بحب آخر- حبّ الشهوات- فلم نجد ما يدفعنا إلى هذا الحب الاتباع. والحقيقة أنّ أصل الحب موجود فينا، وكلُنا يشعر به، ولكن عندما نأتي لتنفيذ الأوامر والابتعاد عن النواهي نجد ضعفاً ووهناً يقصينا عن تطبيق هذه الأوامر، وهذا هو التقصير بعينه، فكلنا محبّ وإن كنا مقصرين وليس أدلّ على ذلك، من الألم النفسي الذي نجده عقب ارتكاب المعاصي..
فما السبيل إلى محبّة الله عزّ وجلّ محبّة خالصة؟
قبل أن أذكر الأسباب الجالبة للمحبة، أريد أن أنوّه إلى حقيقة معظمنا غافلٌ عنها وهي:
أنّ الإنسان مفطورٌ بطبعه على حبّ من أحسن إليه، وهذا أمر كلّنا يحس به، ولذلك قالوا:"جلبت النفوس على حبّ من أحسن إليها". فإذا عرفنا أن المحسن إلينا واحد لا ثاني له وهو الباري عزّ وجلّ، عندئذ لا بد أن تتجمع في قلوبنا عوامل المحبّة، فتتجه إلى ذلك المحسن الأوحد.
ولعلّ غفلتنا عن ربّنا جعلتنا نتصور أنّ ما يفد إلينا من نعم وإحسان وحماية ورعاية.. إنّما يفد إلينا من هؤلاء الناس، ومن ثمَ تقاسم هؤلاء الناس محبتنا، فشيء من الحبّ يتجه إلى ذلك الطبيب الذي عالجنا، وشيء من الحبّ يتجه إلى الإنسان الذي أكرمنا، وشيء من الحبّ يتجه إلى الإنسان الذي أعاننا.. وهكذا تتبدد عوامل المحبّة بين هذه الفروع وتتشعب نحو هؤلاء الناس.
لكن عندما تعلم أن الطبيب الذي أحسن إليك بالشفاء ليس إلا جندياً بيد الله، وأن الذي شفاك- فعلاً- هو الله عز وجل، وأن الإنسان الذي أكرمك بالمال إنما سخّره الله عز وجلّ لك.. عندئذ يتّجه فؤاد كلِ واحد منا بالحبّ نحو ذلك المحسن الأوحد، الذي تفجرت من عنده جداول الإحسان، فتوجهت إلينا من هنا وهناك، عندئذ لا بدّ أن يكون الله عز وجل أحبّ إلينا من أنفسنا والناس أجمعين.
والآن كيف يمكن لقلوبنا أن تمتلئ بالمحبّة؟
يقول الإمام ابن قيّم الجوزية- رحمه الله تعالى- في كتابه القيّم "طريق الهجرتين":إن الأسباب الجالبة للمحبة، والموجبة لها عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبّة.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبه من المحبّة على قدر نصيبه من هذا الذِكر.
الرابع: إيثار محابّه- المولى عز وجل- على محابِك- أنت- عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، أحبّه لا محالة.
السادس: مشاهدة برّه وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته.
السابع: وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليّته بين يدي الله تعالى.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي- وقت السَحر- لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدّب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبّين الصادقين.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل- انتهى.
فالتزامك بما ذكر يثمر التعظيم والتعظيم يثمر الحب، والحب يثمر الخوف، والخوف من الله تعالى يدفعك إلى الاتباع:﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾ فالاتباع هو عنوان محبة العبد لمولاه. أما محبة الله عز وجل للعبد، فهي تختلف عن محبة العبد لملاه. ذلك أن المحبة شعور يجده الإنسان في قلبه وكيانه، وهذا الشعور بمعناه المألوف والمعروف لدينا مستحيل على الله عز وجل، فالمراد بالحبّ من الله للعبد: لوازم هذا الحبّ، وهي الرضى عن العبد وإكرامه وتقريبه منه، وحمايته من كل سوء.
وعلامة كل هذا أن تتجه قلوب عامة الناس إليه بالحبّ، كما جاء في الحديث الشريف المتفق عليه:"إذا أحبّ الله العبد نادى جبريل: إن الله يحبّ فلاناً فأحبّه، فيحبّه جبريل، فينادي في أهل السماء: إنّ الله يحبّ فلاناً فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض".
ولنقف قليلاً عند جملة "ثم يوضع له القبول في الأرض" فهي عنوان محبة الله للعبد.
فظاهره أن الناس أن الناس جميعاً يحبّون هذا الذي يحبّه الله تعالى. فترى قلوبهم متجهة إليه بالكلية، يستأنسون بحديثه، ولا يملّون من مجالسته، بل يستوحشون عند مفارقته، غير أن الواقع غير ذلك. ويكفي أن نضرب مثلاً لذلك بالرسل والأنبياء.. كم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أعداء يبغضونه ويكيدون له، وهو أحبّ الخلق إلى الله عزّ وجلّ، فأين هذا القبول في الأرض؟
نقول: هذا القبول إنما هو خاص بجماعة المؤمنين بعضهم مع بعض، فالحديث لا علاقة له أبداً بملحد أو فاسق، ولا علاقة له أبداً بإنسان هيمنت عليه أهواؤه وشهواته واستولى عليه الكبر، وأعمته عصبيته، وأخذته العزة بالإثم.
فكان أحدهم إذا نظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لا يرى فيه إلاّ يتيم ابن أبي كبشة- زوج حليمة- الرجل الفقير الذي لا يؤبه له، لأن أهواءه وشهواته حالت دون رؤية هذا اليتيم على حقيقته، وهو النبي المرسل، وذلك ما عبّر عنه القرآن الكريم، حين قال الباري عز وجلّ:﴿سأصرف عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحقِ وإن يروا كلَ آيةﹴ لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرُشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغيِ يتّخذوه سبيلاً، ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين﴾[الأعراف: 146].
وأما المؤمن فقد ارتفع ذلك الحجاب عن قلبه فرأى في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم النبوة والرسالة فأشرب قلبه بحبه، وازداد إيماناً ونوراً ومعرفة.
وليس هناك أدلّ على ما نقوله من قصة فضالة بن عمير- رضي الله عنه- فقد كان كافراً متكبراً على الله ورسوله، وعلى الإسلام، وقرر يوم فتح مكة أن يخطط لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء عليه الصلاة والسلام بعد أن أوحى الله عز وجل إليه بما بيّته فضالة من قصدﹴ ونية، واتجه إلى حيث يكمن فقال له:"أفضالة؟ قال: نعم يا رسول الله- وكان يتظاهر بالإسلام- فقال: وما تصنع هنا؟ قال: لا شيء، أسبّح الله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده على قلبه وقال له: يا فضالة استغفر الله، قال فضالة: فوالله لم يكن رجل على وجه الأرض أبغض إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع يده على قلبي ورفعها لم يكن رجل على وجه الأرض أحبَ إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فلنرفع أكفّ التضرع إلى الله عز وجل ونسأله كما سأله حبيبه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء الذي كان يله جبه لسانه:"اللهم إني أسألك حبك وحبّ من يحبك، والعمل الذي يبلّغني حبَك. اللهم اجعل حبك أحبّ إليّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد".
اللهمّ آمين
العدد 13 – محرّم 1417 / أيار وحزيران 1996
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة