امتحان الكُرة.. سقوط بامتياز!
كتب بواسطة بقلم: سهاد عكيلة
التاريخ:
فى : المقالات العامة
723 مشاهدة
ما حدث في معركة «أم درمان» كشف عن مقدار النخر المتجذّر في عمق البنية الثقافية والاجتماعية والعقائدية للأمة الإسلامية؛ فقد سقطت الجماهير في امتحان الأخلاق لتضيف إلى رصيدها انحداراً آخر!
فمباراة الكرة بين مصر والجزائر فضحت الحكام والمحكومين وما بينهما من أجهزة ومؤسسات... فالحكام دَجّنوا شعوباً ليومٍ كهذا؛ يوم ينسى فيه الشعب كل المآسي المرتكَبة بحقِّهِ وكل الظلم والظلام الذي يتسربل به، ينسى فساد المتحكِّمين وأجهزتهم، ينسى سياسات التفقير والتجويع والتجهيل... ينسى عذاب السجن والسجَّان... لتطفو على صفحة الذاكرة فقط: «عصبية الجاهلية» فيهتف باسم الرئيس وأبناء الرئيس، وتطبِّل معه الوسائل الإعلامية التابعة «للسيد» الرئيس، لتذكره بمواقف الرئيس البطولية، وبحكمة الرئيس، وبسَعة صدره، وبصبره... وتقوم بتجييش المشاعر، وبتحريك الغرائز، فتصب الزيت على النار، فتنسى الشعوب العربية أن بينها علائق أسمى بكثير من فوز بمباراة، وأسمى بكثير من حدود الوطنية الضيِّقة المصطنعة... تنسى أنّ رباط العقيدة هو الذي يجمعها أولاً وآخراً، فتدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتتمنى لو تخوض معركة ضد عدوّها «القومي» لتنتقم وتسترجع كرامتها المهدورة!
ويا ليت هذه الحَمِيّة تأجّجت يوم انتُهِكت حرمة الأقصى بالأمس القريب، فلم نجد وقتها سياسة إعلامية رسمية ممنهجة تحرِّك الشارع العربي ضد الصهاينة وما يفعلون، ولم يتحرك الشارع نفسه غيرة على مسرى نبيّنا المعظَّم صلى الله عليه وسلم ومِعراجِه إلى السماوات العُلا! ويا ليت تلك الوسائل احتشدت وطالبت أولياء نعمتها بفتح معبر رفح، وتخفيف المعاناة عن إخواننا وأخواتنا وأطفالنا في غزة...
وهذا يدلِّل على مقدار النجاحات التي حققها أعداء هذه الأمة من خلال الخطط قصيرة وطويلة الأمَد لتفريغ العقل العربي، ولزرع الروح الانهزامية فيه، ولتحكّم النعرات القومية ثم الوطنية ثم المناطقية ثم العشائرية... وكل هذا قد تحقق، في غَيْبةٍ من الأمة، على أيدٍ ارتضى أصحابها أن يكونوا أزلاماً للمحتل أذناباً له، كالعجينة في أيديهم يشكِّلونها كيفما يشاؤون... تَحَقَّقَ ليُعيدوا الأمة إلى المربّع الأول... إلى الجاهلية الأولى... إلى حرب داحس والغبراء التي دامت أربعين سنة من أجل سبق فرس! تَحَقَّقَ يوم أن خلّفت الأمة المنهج الإلهي وراء ظهورها:
· (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أَخَوَيْكم)، (وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتَتَلوا فأصلحوا بينهما)؛ فالله يدعو أرباب العقول من المسلمين إلى الإصلاح، وبدل أن تلعب الوسائل الإعلامية وكذا قادة الرأي ومن يُسَمَّوْن بالنُّخَب الثقافية دَوراً في تهدئة النفوس وتهيئة الأجواء للتأليف بين قلوب المتخاصمين على «كُرة»، قاموا بتأليب الناس على بعضهم، وبشحن الأجواء، وبابتكار سيمفونية من السباب والشتائم والانتقاص من الآخر، وبإعداد الملفات لتقديمها إلى «مجلس الأمن» وإلى «الاتحاد الدولي لكرة القدم – فيفا»، كتلك التي تُجهَّز للتدليل على جرائم الصهاينة... والله إنها لَمهزلة... فقد جعلونا «فُرجة» لكل شامت مترصِّد يرقص طَرَباً لمزيدٍ من تكريس الفُرقة بين المسلمين... وما كان ذلك يليق بأمة تميّزت يوماً برُقيّ أخلاقها، فجذبت بها القلوب الضالة إلى حظيرة الإسلام!
· (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا...): ولو أدرك المتخاصمون حقيقة نعمة الأخوّة التي خصّ الله تعالى بها هذه الأمة، ما سقطوا في ذلك المستنقع، ولاستفادوا منها في التغلّب على هذه الفتنة، ولَخرجوا منتصرين ليس في امتحان الكرة، وإنما في امتحان الأخوّة في الله. ولكن هيهات... فقد ابتعدت الأمة كثيراً عن النبع الرقراق الأصيل الذي استقى منه السلف فنَعِموا بأخوّة الإسلام قروناً، ثم جاء أقوامٌ ما حفظوها وكانوا لها مضيّعين! وما حدث بين مصر والجزائر في هذه المعركة المصيرية الفاصلة خير دليل: فلا «المنتصر» تحلى بآداب الانتصار من شكرٍ لله وتواضع ورحمة بالمهزوم، ولا «المنكسر» تحلى بصدر واسع وعقلٍ يعترف بأنّ الأيامَ دُوَل.
· (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب رِيحُكم): هذا التوجيه الرباني وعاه أعداؤنا، وعلموا أنّ ذهاب دولة المسلمين وقوّتهم وتهاوي حصونهم لا يكون إلا بالنزاع والفُرقة، فجعلوه من مقوِّمات غَلَبتهم علينا...
· «دعوها إنها مُنتنة»: جاء في صحيح البخاري أنّ رجلين من المهاجرين والأنصار تشاجرا فقال الأَنْصَارِيّ: يَا لَلأَنْصَار! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: «مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةٍ؟»، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ (أي ضربه بيده على قفاه). فَقَال (صلى الله عليه وسلم): «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَة». صدق رسول الله الذي بذل الجهود بتوجيهاته القولية والفعلية ليدرأ عن أمته أسباب الفُرقة لما يعرف من مآلاتها، ويعلم بأنه ما إن يفوح نتنها على الأمة حتى يصيبها في مقتل؛ فيصبح الغثاء من الناس سِلماً لأعداء الله، حرباً على أوليائه!
إذاً، هي ليست مسألة كرة وفوز وهزيمة، إنها قضية جماهير وجدت في هذه المسرحية متَنَفّساً عن حياة الكبت التي فُرِضتْ عليها، وتعويضاً عن الهزائم التي توالت عليها فطَفِقت تبحث عن نصر موهوم، وتعبيراً عن الفراغ الفكري والروحي الذي تعيشه! وحكام يُمعِنون في قتل الروح المعنوية لشعوبهم، ويحوِّلونهم إلى دُمىً في مسرحيةٍ صيغت ليحصِّلوا المزيد من المصالح الخاصة، وليُلهوا الشعوب ويُعموا أبصارهم عما يفعلون. عندما فاز المتطرف الصهيوني (مناحيم بيغن) قبل أكثر من ثلاثين عاماً برئاسة الوزراء في الكيان الغاصب، قال للمسؤولين الجدد في حكومته: «علينا أن نمنح العرب في إسرائيل الفرصة لتأسيس (فِرَق كرة قدم) لكي ينشغلوا بذلك»!!!
فيا أيتها الجماهير الثائرة الغاضبة، لِنكن أكثر وعياً وحذراً مما يدبّر من وراء هذه الفتنة وغيرها، فنصمّ آذاننا عن تلك الأصوات النابحة المفرِّقة بين أبناء الأمة، ولنقوِّم مسارات غَضْبتنا، ولنوجِّهها في الاتجاه الصحيح نحو أعدائنا أينما كانوا: في فلسطين والعراق وأفغانسان وباكستان وكشمير والشيشان... ولندّخر طاقاتنا، التي تُهدر في غير موضعها، لمحاربتهم بشتى الوسائل المشروعة نُصرةً لدين الله وسعياً لتحكيم شرعه، لنرجع كما أحبَّ ربُّنا أن نكون (خيرَ أمةٍ أُخرِجَتْ للناس)؛ وإلاّ فسنبقى أذَلّ الأمم وأتفَهها... وواأسفاه حينئذٍ على مجدٍ ضيَّعناه! اللهم أَبرم لأمة حبيبك صلى الله عليه وسلم أمرَ رُشدٍ يرفع شأنها ويُعزّ كرامتها.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن