قدّم خمسة عشر عالمًا من بلدان إسلامية مختلفة قراءتهم حول فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في ختام مؤتمر عقدوه في مدينة ماردين جنوب شرق تركيا «27 – 28 / 3 / 2010». وقد نظم المؤتمر المركز العالمي للتجديد والترشيد (لندن) بالتعاون مع مؤسسة كانوبوس الإسلامية للاستشارات (لندن) وجامعة أرتوكلو ( ماردين).
وقد شارك في المؤتمر كل من تركيا والسعودية والإمارات وإندونيسيا والبوسنة والمغرب ونيجيريا والهند وألبانيا واليمن والسنغال والكويت وموريتانيا، وحضر ستة من مشايخ السعودية هم: عبد الله عمر نصيف، وعبد الوهاب الطريري، وعبد الله البراك، وناصر الحنيني، وعايض الدوسري، وحسان فلمبان، إلى جانب كل من الشيخ عبد الله بن بيه - الرئيس التنفيذي للمركز العالمي للتجديد والترشيد- ومفتي البوسنة الشيخ مصطفى سيريتش، والقاضي الشيخ عبد الله ولد أعلى سالم رئيس المجلس الدستوري الأعلى بموريتانيا، والشيخ الحبيب علي الجفري من اليمن وآخرين. أما محاور المؤتمر فقد ناقشت:
-فتوى ماردين: الزمان والمكان والظروف والملابسات.
-مفهوم الموطِن والمقر في الفقه التقليدي وفي ضوء العولمة والاتصالات الحديثة.
-أهمية الفتوى في سياق التاريخ الإسلامي.
-فهم الجهاد: ظروف القتال المسلح وقواعد الاشتباك، كما تم تعريفها من قبل ابن تيمية وميثاق الأمم المتحدة.
ولا شك أن المتابع لردود الفعل سيجد أن أكثر الذين رحبوا بمؤتمر ماردين هم العلمانيون والملاحدة والرافضة والصوفية والقبوريون واليهود والصليبيون ووعاظ السلاطين والمعادون لتيار الجهاد العالمي وحتى المغفَّلون! فهل ثمة ما يبرر كل هذه الضجة حول المؤتمر؟ وما هي حقيقة محتوى البيان الختامي الذي صدر عنه؟
أول ما يلفت الانتباه في البيان الختامي الصادر عن المؤتمر هو الصيغة الإخبارية عن هوية المؤتمر وموضوعه ومنطلقاته وأهدافه.
-هوية المؤتمر: فقد أطلق البيان على المؤتمر اسم « مؤتمر قمة السلام».
- موضوع المؤتمر: « تدارُس أحد أهم أسس العلاقات بين المسلمين وإخوانهم في الإنسانية؛ وهو تصنيف الديار في التصور الإسلامي وما يرتبط به من مفاهيم كالجهاد والولاء والبراء والمواطنة والهجرة».
-هدف المؤتمر: «تأصيل التعايش السلمي والتعاون على الخير والعدل بين المسلمين وغيرهم»؛ في ضوء: «الواقع المعاصر الذي ارتبط فيه المسلمون بمعاهدات دولية يتحقق بها الأمن والسلام لجميع البشرية وتأمن فيه على أموالها وأعراضها وأوطانها، واختلط فيه المسلمون بناء على ذلك بغيرهم اختلاطًا غير مسبوق في كثير من جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولحاجة المسلمين إلى الرؤية الشرعية الصحيحة التي لا تخالف النصوص الشرعية وتتوافق مع مقاصد الشريعة وتتكيف مع الواقع المعاصر»!!
-منطلقات المؤتمر: « فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في تصنيف مدينة ماردين في عصره منطلقًا للبحث لما تختزنه من دلالات علمية وحضارية ورمزية متميزة».
مناقشات عامة
أولاً: أجندة سياسية
بحسب تصريحاته لموقع « الإسلام اليوم – 4/4/2010 » قال الشيخ عبد الله بن بيه إن: «اجتماع مختلف الطيف الإسلامي هو عبارة عن محاولة جمع المسلمين على رؤية واحدة في قضايا تُهم مصيرهم، وهي قضايا الاحتراب الداخلي» مضيفًا: « نحن في المركز العالمي دعونا مجموعات متخصصة في شيخ الإسلام من مشارب ومذاهب مختلفة؛ حتى تكون هذه الوحدة حول قضايا الأمة، حتى يُقنع بعضنا بعضًا، وكذلك جامعة ماردين».
لكن كل الذين حضروا المؤتمر هم من مدرسة سياسية واحدة تصب في خانة النظام السياسي والدولي القائمين بصورة مباشرة لا مواربة فيها، وبالتالي فإن فتواهم أقرب لأنْ تكون سياسية من كونها دينية. وإلا !! فما الذي يجمع هؤلاء الذين ينتمون إلى مدارس عقدية من المفترض أنها متناقضة ومتصارعة في عقائدها كالسلفية والصوفية والشيعية والعلمانية إلا أن تكون مصالحهم وأهدافهم واحدة في استهدافها لتيارات المقاومة والجهاد؟ وبأي حق يجوز لهم الاختلاف العقدي، على خطورته، وفي نفس الوقت يتفقون على تجاوز فتوى ابن تيمية!؟ هل باتوا، بين ليلة وضحاها، على مسافة واحدة من ابن تيمية!!!؟
أما تسمية المؤتمر بـ « مؤتمر قمة السلام» فلا تخلو من دلالة على أن المؤتمر إما أنه عُقد بموجب أجندة دولية أو بما يستجيب للأطروحة الغربية بشكل مباشر! خاصة، وعلى حد تعبير أحد المراقبين، أن تنسيقًا بين الحكومتين البريطانية والتركية سبق انعقاده.
الطريف في المؤتمر أن أحدًا من علماء الدول أو الشعوب المحتلة أو المضطهدة أو المهددة بالزوال لم يحضر المؤتمر ولم يُمَثَّل فيه لا من قريب ولا من بعيد، وكأنهم ليسوا جزءاً من علماء الأمة، أو أن شعوبهم وبلادهم انتسيت وانتزعت من الوجود الإنساني. من هؤلاء الغائبين المغيَّبين علماء تركستان الشرقية وفلسطين وأفغانستان والشيشان وجامو وكشمير وتايلند ونيجيريا ...، بل إن من حضر المؤتمر هم من خططوا له ولأهدافه ولمُخرجاته سلفً!!
ثانيًا: التعايش السلمي
لم تكن فتوى ابن تيمية هي الهدف بحد ذاتها، خاصة وأن المؤتمر نفسه أعلن أنها منطلق لأعماله وتوجهاته، بل هدم فكرة تقسيم العالم الإسلامي إلى دارين (دار إسلام ودار حرب)، وهذه فكرة لم يأت بها وحده ابن تيمية بل هي جزء من العقيدة الإسلامية. لكنّ المؤتمرين يعتقدون، بحسب البيان الختامي، أن: « تصنيف الديار في الفقه الإسلامي تصنيف اجتهادي أمْلَته ظروف الأمة الإسلامية وطبيعة العلاقات الدولية القائمة حينئذ. إلا أن تغير الأوضاع الآن ووجود المعاهدات الدولية المعترف بها وتجريم الحروب -غير الناشئة عن رد العدوان ومقاومة الاحتلال- وظهور دولة المواطنة التي تضمن في الجملة حقوق الأديان والأعراق والأوطان استلزم جعل العالم كله فضاءً للتسامح والتعايش السلمي بين جميع الأديان والطوائف في إطار تحقيق المصالح المشتركة والعدالة بين الناس، ويأمن فيه الناس على أموالهم وأوطانهم وأعراضهم، وهو ما أقرته الشريعة ونادت به منذ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووضع أول معاهدة تضمن التعايش بين جميع الطوائف والأعراق في إطار العدالة والمصالح المشتركة، ولا يُسوغ التذرع بما يشوبها من نقص أو خرق دول معينة لها للتنكر لها وافتعال التصادم بينها وبين الشريعة السمحة».
إذن الأصل في التغيرات التي طرأت على البشرية استلزمت جعل العالم كله فضاءً للتسامح والتعايش السلمي! وبالتالي فالنظم السياسية والدولية والشرعيات الدولية وكل منظوماتها صحيحة وشرعية ومتفق عليها بين الأمم والشعوب ومعترف بها! هذا التسامح والتعايش والعدل والأمن والأمان بدا واضحًا في الصومال والعراق وفلسطين والسودان والجزائر ولبنان وباكستان وأفغانستان والبوسنة والشيشان وتركستان الشرقية وتايلاند وكشمير والفلبين ونيجيريا. أما النقص والخرق لهذا التعايش فقد قامت به فقط دول معينة مثل الولايات المتحدة التي غزت العراق مع 32 دولة بدون قرار من مجلس الأمن، وأوروبا الغربية وبعض الدول الآسيوية، وأثيوبيا، وإسرائيل، وروسيا وشرطة نيجيريا التي ذبحت آلاف المسلمين في الشوارع، والصين التي تقرض شعب تركستان الشرقية منذ أكثر من مائتي سنة حتى قاربت البلاد على الزوال. وهذا الخرق لا يؤثر على حالة التعايش السلمي والتسامح!!!
تعايش مُمِلّ بين الأديان والأعراق والأوطان تجاهَلَ الحروب الطاحنة على الإسلام والمسلمين وتشويه سمعتهم وصورتهم والاعتداء على نبيهم ومنع بناء المساجد والمآذن وحظر النقاب ومحاربة الحجاب وإطلاق الرصاص على القرآن الكريم أو فرمه، ونهش لحوم المسلمات وقتل الأبرياء. هذا النوع من التعايش لم يرد في البيان، ولم يعرفه، ولم تتحمل فيه الشرعية الدولية ولا أية دولة معتدية أيَّ شكل من أشكال المسؤولية، بل إن اسمها لم يرد في البيان أصلاً.
أما أحمد أوزل المحاضر في معهد الدراسات الإسلامية في إسطنبول، فكان صريحًا حين أشار في حديث لصحيفة «توداي زمان» إلى أن: «الإعلان النهائي للمؤتمر يخاطب العالم الغربي أكثر من العالم الإسلامي»، وهو ما عبّر عنه قيام صحافيين أتراك بترجمة فورية لأعمال المؤتمر إلى اللغة الإنكليزية وتوزيعها على عدد من وسائل الإعلام الغربية. ولو قرأنا تصريحات مصطفى سيريتش مفتي البوسنة التي ذُبح شعبها بالأمس القريب لاتَّضحت الصورة أكثر ولزال العجب، فماذا يقول؟ « ليس علينا أن ننظر إلى الليبرالية العلمانية على أنها عدو للإسلام، بل علينا أن ندفع باتجاه أن يصبح النموذج العلماني الغربي أكثر استيعاباً للقيم الدينية في الحياة اليومية والاجتماعية»، ويضيف "سماحته": «لم يعد هناك معنى لكلمة دولة إسلامية! بدليل أن المسلمين غالباً ما يجدون حريات دينية وحقوقًا في الدول الغربية، أكثر بكثير مما هو متوافر في أي من الدول الإسلامية. لم يعد التمييز بين دولة إسلامية وأخرى غير إسلامية، بل بين دول توفّر العدالة والحرية والأمن، ودول لا تفعل ذلك». خلاص! هذه هي حقيقة المؤتمر، ولا داعي للحديث عن خلافة ولا عن حكم إسلامي ولا عن مسلمين وغير مسلمين ولا عن دعوة تضررت أو دعوة انتصرت، ولا منهج صحيح ولا آخر عقيم. فالصراع الآن مع الغرب يجري في إطار البحث عن مخارج للعلاقة معه تقوم على استرضائه والقبول بنموذجه مقابل استيعابه للمسلمين.
ثالثًا: إسقاط الجهاد
يرى البيان الختامي للمؤتمر أن: «المسؤولية تقع على علماء الأمة في إدانة كل أشكال العنف في التغيير أو الاحتجاج داخل المجتمعات المسلمة وخارجها بوضوح وصراحة وجرأة في قول الحق منعًا للالتباس وإزالةً للغموض»، أما فيما يتعلق بـ: « القتال في سبيل الله» فقد: «أناط الشرع صلاحية تدبيره وتنفيذه بأولي الأمر (الدولة) باعتباره قراراً سياسياً تترتب عليه تبعات عظيمة»؛ لذا: « فلا يجوز للفرد المسلم ولا لجماعة من المسلمين إعلان حرب أو الدخول في جهاد قتالي من تلقاء أنفسهم درءًا للمفاسد واتّباعاً للنصوص الواردة في هذا الشأن».
لا شك أن هذه اللغة لا تمت لفتوى ابن تيمية بصلة تُذكَر. فقد سبقهم إليها الكثير ولم يكن للفتوى شأن يُذكَر. وكل ما في الأمر من أوله إلى آخره أن منظمة المؤتمر الإسلامي سبق لها وأن أسقطت مفهوم الجهاد من على جدول أعمال قمتها السنوية ابتداءً من قمة العاصمة السنغالية داكار في 23/12/1991 التي انعقدت غداةَ انتهاء حرب الخليج الثانية. وفي مقالتنا الثانية عن سلسلة « خريف غزة العاصف - إسقاط الجهاد واغتصاب المقاومة 21/1/2009 » توقفنا عند الموقف الرسمي من الجهاد وكافة أشكال المقاومة، وقلنا إن قرار مؤتمر داكار بإسقاط الجهاد يعني أن حكام العرب والمسلمين:
-لن يعلنوه في يوم ما لأنه لم يعد موجودًا على أجندتهم السياسية، ولأنهم لم يلتزموا به حتى نظريًا، وبالتالي فما من حاجة لأن يلتزموا به عمليًا.
-إذا كانوا قد تجرؤوا على الجهاد كفريضة دينية وغيّبوا الحكم الشرعي عن القضية الفلسطينية رسميًا فما من شيء سيمنعهم من التجرؤ على المقاومة كخيار شعبي لا يساوي شيئًا مقارنة بالخيار العقدي.
-سيسْعَون إلى إحلال «ثقافة السلام» في العقل السياسي العربي الرسمي، على الطريقة الأمريكية، بشكل جذري بديلاً عن ثقافة المقاومة ناهيك عن ثقافة الجهاد.
-لن يتقبلوا أية حركة جهادية، بقدر ما سيوظِّفون لها كل أسباب الإدانة والفشل إن لم تلحق بركب سياساتهم.
-سيحولون دون الاعتراف بأية راية جهادية أو مقاومة، وعلى النقيض من ذلك سيكون أيُّ تدخل أمريكي في المنطقة ضد الجماعات الجهادية مُرَحَّباً به بما أنها باتت جماعات إرهابية!
-سيتخذون أقسى الإجراءات ضد كل ثقافة عقدية ابتداءً من منع الدعاء على اليهود والصليبيين مرورًا بتنظيف المساجد من الخطباء والدعاة «المحرِّضين» والتضييق عليهم وحتى الزجّ بالعلماء المعارضين في السجون أو تهميشهم والعبث في مناهج التربية والتعليم، وانتهاءً بطلب ترخيص حكومي يسمح بدعاء القنوت.
الثابت أنه لم يسبق لأولياء الأمور أن أعلنوا الجهاد بناءً على فتوى ماردين أو غيرها، ولم يسبق لهم أن أسقطوه بناءً عليها! ولسنا ندري كيف يكون الجهاد منوطًا بولي الأمر وهو من أسقطه شرعيًا وسياسيًا بكل أشكاله حتى الوطنية منها. لكن بما أن الفتوى تتحدث أصلاً عن التعايش والسلم والأمن فمن الطبيعي أن يلجأ المؤتمرون إلى تعليق الجهاد على ذمة ولي الأمر. بمعنى أن الفتوى جاءت منسجمة كل الانسجام مع الموقف الرسمي الذي تخلى عن الجهاد والمقاومة. وهذا وحده كافٍ لإسقاط شرعية الفتوى من أساسها كونها لم تأخذ بعين الاعتبار إلا المُعطَى السياسي الراهن.
ثم من هو ولي الأمر المقصود؟ وما هي عقيدته؟ وما مدى شرعيته؟ وماذا لو كان من صُنع العدو نفسه؟ وماذا عن سياساته وموالاته للغرب واستعانته به؟ بل ما هو الموقف الشرعي إذا كان (بول بريمر) الحاكم المدني الأمريكي الأول للعراق يُعتبر بعرف بعض المشايخ والعلماء وليَّ أمرٍ وقعت له الغلبة ووجبت طاعته؟ وأين موقع الجهاد إذا كان ولي الأمر هو الغازي المحتل؟ وما هو حال البلاد المحكومة بقوانين الاحتلال ودساتيره؟ وما هو الموقف الشرعي لمّا يكون التأمل عند مشايخ آخرين واجب حتى لو داهم الاحتلال الديار؟ فمتى يكون الجهاد واجبًا؟
العصمة التي أسقطها فقهاء ماردين على ولي الأمر ونزعوها عن خصومه لم تأخذ بعين الاعتبار شروط الولاية، ولم تأت على الإطلاق على أي من الحالات الشرعية التي يتوجب فيها على الأمة خلع الولي وتجريدُه من ولايته. فالولي يمكن أن يخون ويرتد ويتحالف مع الأعداء، وهذا له نماذج في التاريخ الإسلامي كثيرة؛ فما حكمه؟ ثم ما هو موقف علماء ماردين من الحكم على زعماء عرب سبق وأن حَكَم عليهم علماء سابقون بالردة والكفر؟ فهل نَسَخت فتوى ماردين تلك الأحكام!!؟ ألا يجعل مثل هذا المنطق حتى من الفراعنة أولياء أمور شرعيين!
إذا كان من واجب العلماء أن يُدينوا كل أشكال العنف والتغيير والاحتجاج في الداخل والخارج وإدانة كل جماعة تخرج على أمر الولي في إعلان الجهاد، واعتبار فتوى ابن تيمية غير صالحة لهذا الزمان؛ فما هو حكم العنف الذي يمكن أن يمارسه ولي الأمر على العامة من الناس في الداخل والخارج؟ وهل كانت جبهة الإنقاذ التي فازت في انتخابات الجزائر (1990)، مثلاً، تمارس العنف الدموي لمّا انقلب عليها العسكر وأمعنوا قتلاً في المجتمع؟ ما هو حكم الانقلابيين في الشرع؟ وهل دفعوا بانقلابهم مفسدة أعظم؟ عجبًا!!!
وإذا كانت كل أفعال ولي الأمر واقعة في الإطار الإسلامي فما هو حكم المعارضة إذا ما تحالفت مع العدو الأجنبي غير المسلم واستدعت في يومٍ ما القوات الأجنبية للتخلص منه كما حصل في العراق؟ وما هو الحكم الشرعي إذا كان ولي الأمر ومعارضوه ممن يستعينون بالأجنبي ضد بعضهما؟ وما هي حقيقة الطائفة المنصورة؟ هل وجودها من عدمه منوط بولي الأمر؟ تناقضات عجيبة في (إعلان ماردين) الذي لم يتجاوز أنف اللحظة الراهنة التي يعيشها الحاكم على وجه التحديد! ولم يقدِّم أي تأصيل بقدر ما قدم مواقف سياسية!
رابعًا: الولاء والبراء
أحال فقهاء ماردين الولاء والبراء، « ما لم يكن مرتبطاً بعقيدة كفرية»، وهي غير واردة في أية حالة بموجب البيان، إلى الأحكام التكليفية الخمسة وهي: « الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة»، لا لشيء إلا لتبرير القبول بالشرعية الدولية والمعاهدات وعلاقات المواطنة والحقوق والواجبات التي يتحدث عنها البيان الختامي. لذا من الطبيعي أن يتراجع المفهوم إلى أدنى مستوياته حتى تستقيم الدعوة إلى السلم وحبس الجهاد بيد ولي الأمر.
وعلى حد علمنا إن أبرز العلماء المعاصرين أفتَوْا باعتبار الشرعية الدولية وكافة القوانين الوضعية شرائع كفرية، لكنها بحسب البيان «معترف بها»! فمن الذي أقرّ شرعيتها؟ ومن الذي قال غير الشيخ عبد الله بن بيه ومن يؤيده أنه: «لا يوجد تباينٌ كبير بين المواثيق الدولية وبين الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بقانون الحرب والسلام؛ ... وأن الوضع الآن يمتاز بوجود معاهداتٍ دولية تحكم العالم بأسره»؟ ومن قال غير د. حسن بن محمد سفر إن تقسيم العالم إلى دار حرب ودار سلام: «ليس من الشريعة الإسلامية في شيء»، و «إن الأصل في قيام العلاقات بين الدول هو العلاقات السلمية، وهو ما يتفق مع المنهج الإسلامي الذي أرساه الرسول صلى الله عليه وسلم، بمكاتبة ملوك وأمراء الدول المعاصرة لقيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، التي دعتهم إلى السلم والسلام، وأعلمتهم بقيام الدولة الإسلامية»؟ لمن هذه الرسائل إذن التي اشتملت على العبارة الشهيرة: «أسْلِم تسلم»؟
-رسالته صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس
» فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين فأسلِم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.«
-رسالته إلى المقوقس عظيم مصر
«فإني أدعوك بدعوة الإسلام، أسلِم تَسْلَم يؤتك الله أجرك مرتين.«
-رسالته إلى هرقل ملك الروم
«فإنى أدعوك بدعوة الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثم جميع الأريسيِّين.«
لو أن الفتوى والتصريحات اللاحقة لروّادها بُنيت على العجز الصريح الذي تعانيه الأمة لقلنا إن الجماعة معذورون، بل ويتمتعون بشجاعة عَزّ نظيرُها وهم يصارحون الأمة، لكنها جاءت على العكس من ذلك في محاولة محمومة للالتفاف على الحكم الشرعي في الوقت الذي يتهم فيه الشيخ عبد الله بن بيه أتباع ابن تيمية بكونهم اجتزؤوا أقواله وتنقّصوها أو زادوا عليها في تطبيق الحكم الشرعي.
المشكلة أن الإطاحة بالجماعات الإسلامية ذات التوجه العالمي وتجريدها من شرعية فتوى ابن تيمية كما يقول الطريري! باعتبارها جماعات تكفيرية وإرهابية وخارجة عن الملة لم تعد سوى شماعة للإطاحة بالدين واسترضاء الغرب، لكن بعدها سيُصار إلى العمل على الإطاحة الشرعية ببقية الجماعات، وهو واقع على كل حال، ومن ثم الإطاحة بأسس وأركان الدين، وحينها لا وجود لِكَفَرَة ولا تكفيريين. فقد سمعنا خطابات رسمية ترى في اليهود والنصارى مؤمنين، واطلعنا على فتاوى لعلماء يرَوْن بأنهم مؤمنون بدرجة ما! وراقبنا احتجاجات مسعورة على إطلاق حكم الكفر على من جاهر به، وقرأنا لكتّاب تغنّوا في الكفر وتطاولوا على الله عز وجل، ونُشرت كتبهم ورواياتهم ووُزّعت في البلدان العربية، ولم يقل (فقهاء ماردين) بكفر أمثال هؤلاء ولا أتوا على ذكر أمثالهم كحالات شائعة في الأمة. أما لماذا هذا التجاهل فلأنهم ليسوا هدفًا للمؤتمر. فإذا كان المطلوب هو إلغاء حكم التكفير من الإسلام بحيث لا يتبقى إلا المؤمنون في الأرض والمعاهدات الدولية فما قيمة الأديان إذن؟ وما جدوى بعث الأنبياء والرسل؟ وما قيمة المؤمن إنْ لم يكن ثمة كافر؟ ومن هم الكفرة الذين تحدث عنهم القرآن الكريم؟ وبماذا كفروا؟ وإذا كان الله عز وجل قد خلق الجنة للمؤمنين والخيّرين؛ فلمن خلق النار؟ ثم على أي أساس يوصف أهل الجهاد العالمي بالتكفيريين في حين يتم تجاهل الكفرة أو نفي الكفر عنهم بل والانتصار لهم بحجة الإبداع وحرية التعبير!!؟ هل ثمة قبح أكثر من هذا؟
أخيرًا
تُذكّر (فتوى ماردين) بموجة (مراجعات السجون) لمعتقلي تيارات السلفية الجهادية. ورغم أنه أسلوب استهلكه أصحابه والداعون إليه إلا أننا نشهد تصعيدًا في الأمر، وهذه المرة من قِبَل علماء استَحضروا علماء الأمة من التاريخ كي يُخضعوهم لمراجعات من طراز فريد. ليس هذا فحسب؛ بل الدعوة إلى وجوب إجراء مراجعات تشمل فقهاء وعلماء آخرين كالعز بن عبد السلام والشاطبي وغيرهما، وليس بعيدًا أن نشهد لاحقًا مراجعات لابن كثير والبخاري ومسلم وابن هشام وابن قيم الجوزية والذهبي والطبري وحتى لأئمة المذاهب الأربعة وصولاً إلى مراجعات تمس القرآن الكريم بحجة أن بعض الآيات لم تعد مناسبة للغة العصر! وقد حصل مثل هذا سابقًا من لدن كثير من الزنادقة الذين قرأنا لهم واطلعنا على أطروحاتهم في وقت مبكر حيث لم يكن ثمة سلفية جهادية ولا غيرها.
بالتأكيد فلسنا ضد مراجعة التراث من قِبَل علماء الأمة المشهود لهم كلما لزم الأمر، وبما يواكب العصر بحيث تجيب الاجتهادات على أسئلة مطروحة وتقف عند النوازل الكبرى التي يصعب على علماء الأمة قديمًا اكتشافها أو التنبؤ بها، فالاجتهاد رحمة للأمة. لكننا لن نقبل بمراجعات تحوم حولها آلاف التساؤلات والشبهات بينما الأحكام الشرعية والاجتهادات الفقهية تفيض عن الحاجة بخصوصها. العجيب أننا الوحيدون الذين يتراجعون! والأعجب أننا حين نتراجع لا نعود إلى حيث بدأنا بل إلى حيث يريد النظام السياسي والغربي أن نكون! وهذا انهيار وليس مراجعة ولا اجتهادًا.
لذا فنحن فعلاً بحاجة إلى وقف التراجع عبر تأصيلات شرعية تتمتع بالإجماع لتحديد الموقف الشرعي بخصوص قضايا غدت مثار تأويل ومنازعات كحال الكثير من ديار المسلمين والقِيَم الغربية، والصلح مع إسرائيل وليس مع اليهود، والتحالف مع الأعداء أو الاستعانة بهم، والشرائع الدولية ومؤسساتها، ونُظُم الحكم، وولاية الأمر، والجهاد، وحوار الأديان، والقواعد العسكرية في بلادنا، ونهب ثروات الأمة والعبث بمواردها، والخَوَر والعجز والإرجاف والتنطع والتحريف والبدع والخرافات والشعوذات السياسية، والاقتصاد، والتجارة، والتنمية، والثقافة، والعلاقة مع الحضارات وبقية الأمم، ومحاربة الإسلام، وقتل المسلمين بلا ذنب، وملاحقتهم ومطاردتهم، وتشويه الإسلام والمسلمين، والتضييق عليهم، والعنصرية، والاعتداء على العقيدة والرسول صلى الله عليه وسلم، والتطاول على الله سبحانه وتعالى.
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة