الثبات يا شعب ليبيا
هل نحن في حلم؟!
إن ما نراه في عالمنا العربي في هذه الأيام هو أغرب من الخيال في تصورات الكثيرين.. ولو رجعنا بأذهاننا شهرين أو أكثر قليلاً، وقبل بداية ثورة تونس، لكان من المستحيل في عُرْف المعظم أن تحدث مثل هذه الثورات المجيدة في تونس ومصر وليبيا، وأن تصاحبها ثورات أخرى في عدة بلدان عربية في آنٍ واحد .
إنني -والله- أرى رحمات ورحمات تنزل من الله الكريم على الأمة العربية في هذه الأيام.. نعم هناك آلام ومعاناة، لكن منذ متى والشعوب تتحرر دون ألم ومعاناة؟.. إنها سُنَّة ماضية لا خُلْفَ فيها ..
نجحت تونس .. ونجحت مصر .. وقريبًا ستنجح ليبيا إن شاء الله ..
في قلبي يقين بذلك.. أكاد أرى نصرها.. وأكاد أرى ذلّ القذافي وبطانته ..
أيها الشعب الليبي الحبيب ..
الثبات الثبات؛ إنما النصر صبر ساعة ..
لست وحدك يا شعب ليبيا الأصيل ..
بل كلنا نعاني معك، ويعتصر قلوبنا الألم لألمك، والحزن لحزنك، وننتظر نصرك مثلك تمامًا أو أشد.. فأنتم منا ونحن منكم، وطريقنا وطريقك واحد، وأيدينا مرفوعة إلى الله دومًا أن يُنزِل عليك السكينة، وأن يُهلِك عدوَّك وعدو المسلمين .
لقد عشنا -يا شعب ليبيا العظيم- في مصر ظروفًا مشابهة لظروفكم، ومنَّ الله علينا بأكثر مما كنا نحلم به، وما زالت أفضاله ورحماته تتنزَّل علينا، وقد أردت في هذا المقال أن أتبادل معكم بعض النصائح من واقع خبرتنا في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر، ومن واقع تجربتنا المشابهة لتجربتكم، وأسأل الله أن يعطيكم أفضل مما أعطانا، فهو الكريم سبحانه لا تنفد خزائنه ..
أولاً: اعلموا أيها الشعب العظيم أن النصر من عند الله، وأن كل شيء بيده سبحانه، وأن طواغيت الأرض جميعًا لا يعجزون الله تعالى، ولكنه يؤخر النصر لحكمة، وإلاّ فإنه يقول للشيء كن فيكون، ونحن لا نحيط بحكمته، ولا نحصي فوائد فعله وتقديره، ولكنه -سبحانه- يُطلِعنا على طرف من حكمته في تأخير النصر؛ حتى تصح عبادتنا وتستقيم له سبحانه.. فمن حكمة تأخير النصر الاختبار للمؤمنين، فلو كان طريق النصر ناعمًا لسار فيه الخلق أجمعون، لكنه شاء -سبحانه- أن يجعله صعبًا عسيرًا طويلاً حتى يتخلف عنه المتخاذلون، فلا يبقى فيه إلا العباد الخالصون المخلصون، وعليهم سينزل نصر الله بإذنه تعالى .
ومن حكمة تأخير النصر انتقال فريق من الظالمين إلى معسكر المؤمنين، فيكونون بذلك عونًا لهم بإذن الله، ويستنقذهم الله مِن عقاب الظالمين، وهذا نراه كل يوم في ليبيا، حيث تتوافد مواكب الخير، ويترك الكثير من جند الظالمين مواقعهم الأولى إلى مواقع أخرى جديدة ما عهدوها قبل ذلك، وهذه رحمة بهم وبالمؤمنين. ومن حكمة تأخير النصر أن الله تعالى يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ولعل المُطالِع لنهاية الرئيس حسني مبارك يفهم هذه الحقيقة جيدًا، وقريبًا إن شاء الله سترون نهاية فاجعة للقذافي، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
إنها حِكَم كثيرة من وراء تأخير النصر، لكنه في النهاية يأتي بإذن الله، ولتعلموا أن النصر لا يأتي إلا بعد أشد لحظات المجاهدة، بل يأتي عندما يصل الناس إلى حالة من الألم والفزع، يظنون فيها أن النصر لن يأتي، فعندها ينزل برحمة الله تعالى. قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف: 110].
أيها الشعب الليبي العظيم، إن قناعتكم بأن النصر من عند الله هي التي ستكون سببًا في سرعة نصركم بإذن الله، ولو اعتقدتم في أعدادكم أو عُدَّتكم، أو الغرب أو الشرق، فإن النصر سيبتعد، وقد يذهب بالكُلّية؛ فكونوا على حذرٍ، وراقبوا قلوبكم، وأخلصوا لله، وارفعوا أيديكم له، واعتمدوا عليه، واطلبوا منه؛ فهو كاشف النصر ومزيل الهم، وهو على كل شيء قدير.
ثانيًا: أيها الشعب العظيم، وحِّد صفك، واجمع شملك، وكونوا جميعًا يدًا واحدة على الظلم.. لقد حرص الظالمون الذين حكمونا على تقسيمنا شيعًا وقبائل وفِرقًا وجماعات، ودسُّوا بيننا الضغائن، ووضعوا بعضنا عينًا على بعض، وكان هذا سبيلهم في قيادتنا ووسيلتهم في السيطرة علينا.. فإذا أردنا سبيل النجاة، فإن هذا لا يكون إلا بالوحدة، والاعتصام بحبل الله المتين.. يقول تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
فعلى قادة العشائر الليبية، وكذلك على المفكرين والعلماء والدعاة ورءوس القوم، أن يجتمعوا ليل نهار لتنظيم الصفوف الليبية في كيان واحد مواجه لهذا الطاغوت القذافي، ولننبذ أيّ خلاف، ولنترك كل القضايا الفرعية مهما اختلفت توجهاتنا ومدارسنا ومناهج تفكيرنا، ولنجعل لنا جميعًا هدفًا واحدًا جليًّا واضحًا، وهو إسقاط النظام الفاسد برمّته، وبعدها يمكن أن نجلس مرة ثانية لنتفاهم على مستقبل ليبيا وطرق صياغته، أما الآن فلا نشتِّت أنفسنا، ولا نفرِّق جمعنا، بل نقف جميعًا في خندق واحد، وعندها سينزل نصر ربنا إن شاء الله.
ثالثًا: الظالمون ضعفاء للغاية! هذه -والله- حقيقة غابت عنا السنوات الطوال..
لقد غادر زين العابدين بن علي تونس في وقت كان العالم كله يظن فيه القوة، ويراه جبارًا من كبار الجبارين في الدنيا.
وتنحّى حسني مبارك بعد ثمانية عشر يومًا فقط من الثورة المصرية السلمية، ولم تنفعه الأوتاد التي دقّها في أعماق أرض مصر على مدار ثلاثين سنة!
إن الظالمين في غاية الضعف! وما المتاريس التي يضعونها حولهم، وعشرات -بل مئات- الآلاف من الجنود التي يحيطون أنفسهم بهم إلا علامة على شدة جبنهم وضعفهم.
والسؤال الذي سيقفز إلى الذهن مباشرة: كيف يحكم هؤلاء الضعفاء شعوبًا كبرى لعشرات السنين؟!
والجواب أن الشعوب لا تدري مصدر قوّتها، ومن ثَمَّ استطاع هذا الطاغوت الضعيف أن يتسلط على شعبٍ لا يعرف مفاتيح قوّته..
وما هي مفاتيح القوة للشعب؟
إنها في النقطتين اللتين ذكرناهما في البداية..
قوَّة ارتباط بالله، وقوَّة وحدة في الصف..
لو ارتبط الشعب بصدق بالله تعالى، ولو وحَّد صفه وصار يدًا واحدة في مواجهة الظالمين، فعندها ستُزلزل عروش المتكبرين وسيكتشف الأسد -الذي رُبِّي على أنه حمل وديع- أنه مِن أقوى الأسود، وسيفرّ الظالم فرار الجرذان، وإن غدًا لناظره لقريب!
رابعًا: أحيانًا يشعر الثوار أن قُواهم قد بدأت تخور، وأن عزيمتهم على وشك الانهيار.. تذكروا عندها أن عدوَّكم يعاني من مثل معاناتكم؛ فالله تعالى يقول: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ): [النساء: 104].
فلو صبرتم قليلاً لانهار عدوكم قبل انهياركم، خاصةً أنكم تجاهدون من أجل حق، وهو يقاتل من أجل باطل؛ فأنتم تطلبون رضا الله بوقوفكم في وجه السلطان الجائر، وهو يطلب سخط الله بظلمه الذي زاد على أربعين سنة؛ ولذلك قال الله تعالى: (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ): [النساء: 10] فهم لا يطمحون في جنة، ولا يبحثون عن غفران، إنما هم قوم فاسقون، عاشوا للظلم والفساد، ويريدون أن يموتوا على نفس الحال، فتعسًا لهم..!!
خامسًا: انشروا روح الأمل والتفاؤل بين الناس، وعيشوا في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تطمئن قلوبكم، وتبشركم بمستقبل واعد لهذه الأمة، وإياكم والإحباط؛ فإن المحبَطين لا يُغيِّرون، واليائسين لا ينتصرون.
وعليكم بنشر أخبار انتصاراتكم ولو كانت جزئية يسيرة، وتناقلوا أخبار معاناة عدوكم، وكذلك أخبار تحلُّل قوتهم وانفصال الأفراد والهيئات عنهم. كما أن عليكم أن تتابعوا لهفة المسلمين عليكم، وتأييدهم لكم، وقَلَّ الآن أن تسمع خطبة جمعة أو درس إلا ويكون في ختامه دعاء لكم، كما أن صورتكم في عيون الغرب صارت عظيمة، ولقد كنتُ في إيطاليا منذ عدة أيام، ورأيت انبهار الشعب الإيطالي بشجاعتكم، ومع أن برلسكوني صديق للقذافي، إلا إن هذا لم يمنع وسائل الإعلام من إبداء استنكارها الشديد لجرائم القذافي البشعة، وهذا كله يصبُّ في النهاية في مصلحتكم، فأبشروا.
سادسًا: استلهموا تاريخ أجدادكم الأشاوس، لقد حارب أجدادكم الكرام عدوكم الإيطالي السنوات والسنوات، وقدموا الشهداء والتضحيات، وأذاقوا الجيش الأوربي آلامًا عميقة، ويكفي أن تراجعوا قصة جدكم الشهيد عمر المختار رحمه الله؛ لتروا كيف تحقَّق لكم النصر في النهاية بعد رحلة طويلة من الجهاد والكفاح.
لقد رأيتم في تاريخكم أن النصر يأتي مع الصبر، فاقرءوا تاريخكم جيدًا، بل واقرءوا تاريخ كل حركات التحرر في الدنيا، فهذا -لا شكَّ- سينفعكم أشد النفع. وأنصح أيضًا بقراءة متأنية لثورة تونس ثم ثورة مصر؛ فالظروف تتشابه في أمور كثيرة، وجميل جدًّا أن تبدءوا من حيث انتهى الآخرون، وأن تستفيدوا من إيجابياتهم، وتتجنبوا سلبياتهم.. وعمومًا فقراءة التاريخ تضيف إلى أعمارنا أعمارًا، وتضع لنا في طريق المستقبل أنوارًا.
سابعًا: اعلموا أن من يقوم بنصف ثورة فهو يحفر قبره بنفسه!
فلا بُدَّ لكم -وليس لكم اختيار- من إكمال المسيرة، ولا بد أن تضعوا هدفًا واحدًا واضحًا أمامكم، ولا تكثروا من الأهداف فتتشتتوا، وهذا الهدف الواحد هو إقصاء القذافي عن الحكم، ولا تفكروا في شيء آخر الآن، ولا تكثروا من الرموز التي تريدون إسقاطها، ولا الأحلام التي تريدون تحقيقها؛ حتى لا يأخذكم عدوكم في مسالك متشعبة، أو طرق جانبية. ولعل هذا الدرس كان من أروع الدروس في الثورة المصرية، حيث كان هدف إقصاء الرئيس حسني مبارك هدفًا واحدًا واضحًا للثورة، وتهاوت إلى جواره الأهداف الأخرى من الإصلاحات الكبيرة والصغيرة؛ ولذلك لم يستطع النظام أن يضحك على الشعب أو يخدعه، فلم تسكن حركة الثوار أو تهدأ عندما بدأ الرئيس في نزع بعض رموز السلطة من أماكنها، أو القيام ببعض التعديلات والتطويرات، وإنما كانت الرسالة واضحة، وهي أن لنا مطلبًا واحدًا، وبعده يمكن أن نتكلم في بقية الأمور.
واعلموا أيها الشعب العظيم أن بقاء القذافي في كرسيه سيعني مجزرة أكبر من التي حدثت عشرات المرات؛ فلا تتركوه في مكانه أبدًا.
ثامنًا: احترسوا من الغرب الأوربي والأمريكي..
إن زعماء هذه الدول الاستعمارية ما يبحثون إلا عن مصلحتهم، ولا يعنيهم في شيء المعاناة التي تعيشونها، وقد كانوا هم أشد العون لكل الزعماء الدكتاتوريين في العالم العربي، وما صرحوا بأنهم معكم إلا عندما وجدوا أن ورقة القذافي أو غيره من الزعماء فد صارت محروقة وتالفة، ولو بدا لهم أن القذافي متمكن من الأمور لما قرروا حربه. ويكفي أن تراجعوا تصريحات أوباما المضحكة أثناء الثورة المصرية، فهو مع اختيار الشعب اليوم، ثم مع الرئيس مبارك غدًا، ثم مع الشعب بعد غد، ومرة أخرى مع الرئيس مبارك! هكذا حسب الظروف! والمضحك أن الزعماء الأوربيين كانوا يترنحون خلفه يمينًا ويسارًا، وما جهروا جميعًا بعظمة الثورة المصرية إلا بعد أن سقط النظام ونجحت الثورة!!
ولو كان عمر سليمان هو الذي سيطر وحكم لوضعوا أيديهم في يده، فلا تكترثوا بتعليقاتهم، إنما اعتمدوا على ربكم ثم على قوتكم ووحدتكم.
كما لا ترعبوا أنفسكم باحتمالية دخول الغرب إلى بلادكم؛ فالغرب يعاني من فشل في العراق وأفغانستان وفلسطين، ولا أعتقد أنه يمكن أن يدخل عسكريًّا عندكم، خاصة أن الأحداث ساخنة حولكم، من الشرق في مصر، ومن الغرب في تونس، فلا داعي لبثّ القلق والفزع في صفوف الشعب دون داعٍ مهم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة