غطاء عربي لعدوان جديد
بعد جدل متعمد رافق قرار مجلس الأمن في فرض العقوبات (27/2/2011)؛ حصلت الولايات المتحدة والغرب (13/3/2011) على مظلة قانونية من الجامعية العربية لاستصدار قرار جديد من المجلس يقضي بفرض حظر جوي على ليبيا، سبق أن أعده مندوبا فرنسا وبريطانيا وأرسلا مسودته إلى حكومتيهما منذ خمسة أيام مضت.
القرار الذي أصدره مجلس وزراء الخارجية العرب، بالتوافق، كما قال عمرو موسى عارضته الجزائر وسوريا والسودان واليمن. والمؤكد أن المعارضة لم تكن إلا حقًا أريد به باطل، وليس حبًّا في ليبيا ولا في الشعب الليبي، ولا خشية من التدخل العسكري في البلاد بقدر ما هو الفزع من انهيار نظام القذافي وامتداد لهيب الثورات الشعبية إليها. فلطالما صمتت هذه الدول، وغيرها، على جرائم القذافي، وأمدته بأسباب القوة، لدرجة أن اليمن أرسلت مبعوثًا رئاسيًا خاصًا للاجتماع به!! ولسنا ندري ما الذي يفعله مثل هذا المبعوث في مثل هذه الظروف إلا أن يكون تعبيرًا عن تضامن بلغة شعبية ترى فيه الحال من بعضه .
قد يبدو قرار الجامعة يحمل شحنة من المناصرة للشعب الليبي، لكنه أخبث من أن ينال هذا الشرف، خاصة وأنه يصب، مباشرة في جعبة الولايات المتحدة والغرب ومجلس الشرّ والعدوان على الأمة الإسلامية وفي القلب منها الأمة العربية. ولو كان غير ذلك لأعلن بصريح العبارة اعترافه التام بالمجلس الوطني الليبي، وقدّم له كل الدعم والمساندة، وأقرّ له بحق التمثيل والوصاية والرعاية بدلا من مجلس الأمن، وليس الاكتفاء فقط بالإعلان عن بدء الاتصال معه .
فيما عدا تعابير الرفض والإدانة، الفارغة، فإن قرار الجامعة العربية لم يكن سوى استجابة لاحتياجات غربية وأمريكية مستميتة للحصول على غطاء سياسي وقانوني من الطرف العربي يمكنها، رسميا وأمام شعوبها، من حق اعتراض مسار الثورات العربية بدء من الثورة الليبية. ولو كان الغرب صادقًا في حماية المدنيين لاعترف بالمجلس الوطني ونسّق معه لدعم الثوار. لكن الخبث هو الخبث. حتى أنه زينه باعتراف فرنسي ماكر أبقاه يتيمًا على الساحة الأوروبية، لا لشيء، إلا لذر الرماد في العيون، علما أن قرارات مجلس الأمن لا تصيغها اليوم إلا فرنسا وبريطانيا !!!
قرار الجامعة لم يكن أيضًا إلا انعكاسًا للمنطق الغربي الذي ما زال يقدم الدعم القانوني كاملاً للنظام الليبي، رغم حديثه الممجوج عن فقدانه للشرعية. فقد استعمل القرار تعبير السلطات الليبية أربع مرات، وذكر الحكومة الليبية مرة واحدة، ولم يتضمن أيّ أثرٍ قانوني على النظام، فضلاً عن أنه خلا كليًّا من أي ذِكرٍ للمجلس الوطني أو الثوار. والإجراء الوحيد الذي تضمّنه القرار يتعلق فقط بمنع الوفود الليبية من حضور الاجتماعات الرسمية مع بقاء التواصل معها والاجتماع إليها حتى على هامش الاجتماعات الرسمية. ولو كان كلام عمرو موسى صحيحًا حين قال بأن الاعتراف بالمجلس واقعيًا قائم لكان عليه لزامًا أن يفسّر غياب الاعتراف قانونيًا، وتجنب الدول العربية من الاعتراف بالمجلس بصفة منفردة .
بقطع النظر عن تباين المواقف تجاه المجلس الوطني أو عن علاقته بالثورة ومدى تمثيله لها، إلا أن قرار الجامعة وهو يعترف بالسلطات الليبية إنما ينكر في نفس الوقت الاعتراف بالمجلس، ويجرّده من أي حق قانوني أو شرعي يساعده في إدارة الأوضاع في ليبيا أو الحق في السعي إلى التسلح والوصاية على الموارد والثروات والأموال الليبية، ويحرمه من أية صفة تمثيلية بما يجعله ضعيفا وعرضة للابتزاز سواء من الغرب أو من النظام الليبي أو من العرب أنفسهم.
الأسوأ في قرار الجامعة العربية أنه، كالتصريحات الغربية والأمريكية على السواء، يعطي النظام الليبي فرصته كاملة. فالتصريحات بهذا الشأن كثيرة، وآخرها ذلك الذي صدر عن مدير المخابرات الأمريكية جيمس كوبر، الذي قال بأن فرص القذافي في الفوز على الثوار، مع الوقت، أكبر، بالنظر لما يمتلكه من قدرات مادية ولوجستية تساعده على الصمود في حين أن الثوار معرَّضون للاستنزاف. وهو تصريح يطمئن القذافي، ويعطيه الوقت اللازم لشن حرب إبادة على الشعب الليبي. وكأنه يقول للعرب: إما أن تمنحونا تفويضًا بالتّدخل أو سنترك القذافي يعبث بكم كيفما شاء!!! أما نص قرار الجامعة بخصوص مستقبل النظام فقد جاء متناغمًا كلّ التناغم مع التهديدات الأمريكية حين نادى بالحرف إلى: « رفع توصية إلى الاجتماع القادم لمجلس الجامعة على مستوى القمة المقبلة للنظر في مدى التزام الجماهيرية الليبية بأحكام ميثاق الجامعة العربية طبقاً للمواد المتعلقة بالعضوية والتزاماتها». بمعنى أن القذافي لديه الوقت لارتكاب المزيد من الجرائم والمذابح حتى شهر أيار/ مايو القادم. فهل ما زال هناك المزيد ممن يجب قتلهم حتى تطمئن الجامعة العربية على مصير النظام؟ وترتوي الولايات المتحدة من الدماء الليبية؟!! وهل تظن الجامعة أن الشعب يمكن أن يقبل التفاهم أو التعايش مع هذا النظام الدموي؟
في خاتمة قرار الجامعة ثمة دعوة لفرض حظر جوي على ليبيا. لكن لا الجامعة العربية ولا المجلس الوطني تساءل عن مضمون الحظر المقصود. أما الأمريكيون فقد كانوا واضحين وهم يتحدثون على لسان وزير الدفاع روبرت غيتس الذي رد على سؤال بشأن إمكانية فرض منطقة حظر جوي، خلال جلسة استماع عقدها مجلس النواب الأمريكي (2/2/2011)، بالقول: « إذا صدر أمر بذلك فإننا قادرون على القيام به»، إلا أنه حذر من أن ذلك سيبدأ بضرب الدفاعات الجوية الليبية، مشيرًا إلى أن «العملية معقدة» وأنها: «تتطلب عدداً أكبر من الطائرات الحربية، أكثر من عدد المقاتلات التي قد تتواجد على متن حاملة طائرات منفردة». وبعد قليل سيقول بأن الولايات المتحدة ستأتي بجيشها لتفرض الحظر؟ فلماذا لا يتحدث صراحة عن رغبة بلاده في شن الحرب على ليبيا؟
كان من الممكن لو أن المجلس الوطني يحظى باعتراف دولي أو عربي أن يحدد هو احتياجاته العسكرية على الأرض بدلاً من إناطتها بالولايات المتحدة والدول الغربية. والأكيد أن بعض الأسلحة الخفيفة، كالصواريخ المضادة للطائرات، تكفي لهزيمة القذافي. لكن إحالة الأمر إلى مجلس الأمن سيعني لاحقًا أن الكلمة لم تعد للثوار ولا للعرب على الأرض. وبالتالي فإن قرار مجلس الجامعة وهو يحذر أو يرفض التدخل العسكري سيكون قرارًا فارغًا من أي محتوى أو تأثير على مجريات الحظر. والأسوأ أنه لا يمكن تصور حجم الضربة الجوية ولا مضمونها. وبما أنه لا يوجد من قوات الثورة على الأرض من يوجه القوات الجوية المهاجمة فإن المنطق الوحيد لأصحاب الخطى الثقيلة هو تدمير ما يرونه هم أهدافًا معادية سواء كانت من المدنيين أو الثوار أو المنشئات أو البنى التحتية أو غيرها بحجة إنجاح الحظر!!! فهل تستطيع الجامعة أو غيرها وقف القصف الأمريكي حينذاك؟ وهل تساءلت الجامعة عما إذا كان الحظر، مثلا، سيشمل الطائرات المروحية؟ وكيف يمكن السيطرة على العشرات منها في بلد مساحته مليوني كم مربع؟
من جهة أخرى فما من أحد يمكنه التنبؤ بماهية التدخل الغربي؟ وإلامَ سيؤول؟ فهو قد يبدأ بحظر جوي لكنه قد ينتهي بكارثة. فالتصريحات الأمريكية نفسها لا تستبعد أي خيار بما في ذلك الاجتياح البري. ولئن كانت التجارب الأمريكية في أفغانستان والعراق فاشلة عسكريًا فقد تكون في ليبيا مختلفة من حيث سعة المساحة الجغرافية ونقص عدد السكان وتناثر المدن. كما أن الأهداف الأمريكية في ليبيا قد تكون مغايرة. وحتى اللحظة لا نمتلك أية معلومات أو تسريبات سوى ما يقع في مستوى العموميات. وفي كل الأحوال، وفي سياق تفجر الثورات العربية، فإن الحديث عن الرغبة في السيطرة على النفط الليبي يأتي في آخر القائمة خلافًا لما هو شائع .
لسنا متشائمين مما نقول. لكن بقدر ما تحُول أزمات الغرب الاقتصادية وتجاربه المريرة من تورطه في حروب جديدة، بقدر ما تشجعه أزماته على ارتكاب الحماقات التي لا مفر منها. فالغرب يشعر أن نظامه الدولي الذي خاض حروبًا طويلة لإقامته، حتى وصل إلى ما هو عليه من السيطرة والهيمنة، مهدد اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالصحوة الإسلامية والجهادية، ومهدد بالزوال بفعل استمرار الثورات العربية. ولأن المأزق كبير فلا بد من اعتراض هذه الثورات بأي ثمن قبل أن يخسر كل ثمن.
وكعادة العرب .. دائمًا ما يقدّمون طوق النجاة للغرب. فما من أحد كان يتمنى تدويل الثورة الليبية عبر التدخل الفجّ لمجلس الأمن. ولو كان القذافي قويًا بما فيه الكفاية لما أرسل مبعوثًا عسكريًا إلى مصر لطلب المساعدة العسكرية والأمنية من المجلس العسكري. فماذا لو قدم المجلس هذه المساعدات للثوار الليبيين؟ هل كان مجلس الأمن ليجرؤ على التدخل؟ وهل كانت الجامعة العربية، الميتة أصلاً، لتدبّ فيها الحياة فجأة وتمنح مجلس الأمن الشرعية للتدخل؟ وهل كانت الدول الرافضة للحظر الجوي لتتبجّح بمخاوف مصطنعة من أن يؤدي التفويض إلى تدخل عسكري في ليبيا؟ وكم من الوقت والمعاناة سيحتاج الشعب الليبي للتخلص مِن تدخلات مجلس الأمن وقراراته الظالمة والعدوانية؟
الحل الوحيد لقطع الطريق على التدخل الغربي، وإفشال مخططاته، يكمن بيد الثوار الليبيين. فإذا ما استطاعوا التقدم بما يكفي لإحداث فارق على الأرض، ودفع قوات القذافي إلى التحصن ومن ثم التفكك، فسيعني هذا استنزاف أهداف الضربة الجوية. حينها سيكون أمام الغرب خيارين لا ثالث لهما: إما ابتلاع الهزيمة والادعاء بأن الاستنفار والحظر حققا أهدافهما وإما التميّز غيظًا وحقدًا والانكشاف أكثر أمام الثورات العربية. فليمكروا ما شاؤوا فإن مكر الله أكبر.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة