الثمن الرخيص للمطلب النفيس
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد :
إن المطالع للأحداث التي جرت في مصر وتونس وأُزيح على إثرها طاغوتان من أشدّ طواغيت العصر، وأزيح بعد إزاحتهما كثرة كاثرة مِن أتباعهما مِن الظالمين والمنتفعين والمُنافقين المُطبلين، إن المطالع لهذه الأحداث يلحظ الآتي :
1- تَنَسّم الشعبين نسائم الحرية، فلم يعد هنالك ظالم يوقع بالشعب، وليس هناك من يَعُدّ على الشعب أنفاسَه ويحاصره في رزقه، ويتآمر عليه ويكيد له .
2- تأسيس أحزاب ومنظمات ومؤسسات إنسانية وحقوقية ما كانت لتحلم بنيلها الرخصة في عهد النظامين البائدين .
3- تحرك الشعبين لنيل حقوقهما كاملة غير منقوصة، والضغط على الحكومات الانتقالية المؤقتة لمنع الثورة المضادة .
4- ظهور الإسلاميين قوة قوية -خاصة في مصر- وظهور أثرهم فيما جرى من تغيير، هذا لتعلم الشعوب أنه ليس لها إلا الله ثم هؤلاء أصحاب الأيدي المتوضئة النظيفة .
5- محاكمة الطغاة والمفسدين، في وقائع تاريخية جليلة لم تعرف في العالم العربي منذ بداية العصر الحديث .
وغير ذلك من آثار كثيرة جليلة لعمل قليل وثمن بخس رخيص دُفع لإحداث هذا التغيير، وكان هذا الثمن هو مظاهرات قامت في تونس لمدة شهر أو أقل، وفي مصر لمدة ثمانية عشر يوماً فقط لا غير!! وقتل بسبب تلك المظاهرات عدد لا يبلغ الألف في كلا البلدين!! فما أحسن هذا الذي جرى، وما أرخص الثمن الذي دُفع !.
وقد كنت كتبت مقالة في أحداث مصر بعنوان "لله درك يا مصر"، بينت فيها أن الذي يجري في مصر من مظاهرات شعبية مليونية أمرٌ جليل، وفعل رشيد صحيح كنا ننتظره منذ سنوات طويلة جداً، وأن انتفاضة الشعب المصري في وجه الطغيان هي أبرز الأحداث العظيمة التي مرت على مصر في تاريخها كله .
وقد ثارت اعتراضات على هذا الذي ذكرته، وقام أشخاص بالرد عليّ في الشبكة العنكبوتية "الانترنت"، وكان اعتراضهم دائراً بين أمرين: حرمة المظاهرات، وساقوا من أجل ذلك أقوالاً لبعض أهل العلم، والأمر الآخر: تحريم الخروج على وليّ الأمر، وساقوا من أجل ذلك أقوالاً لبعض أهل العلم أيضاً، وإليكم ردي على ما أثاره بعض الإخوة غفر الله لنا ولهم :
أولاً: إن المظاهرات من الوسائل الحديثة وليس في تحريمها نص شرعي، فالأمر موكول فيها إلى نظر أهل العلم، وقد أفتى بحلها جماعات كثيرة من العلماء، وأفتى بحرمتها آخرون، فالأمر فيها اجتهادي ولا تثريب على من أخذ بأحد القولين إذن، ولا وجه للإنكار .
ثانياً: إن المظاهرات التي خرجت في مصر هي حق قانوني أقرّه وليّ الأمر في أصل النظام وحقوق المعارضة ؛ فليست المظاهرات في النظام المصري القانوني ممنوعة، بل هي مظهر "ديمقراطي" -كما يسمونه- وهي من حق الشعوب، فلا يمكن عدها -إذن- خروجاً على ولي الأمر .
ثالثاً: وإن فُرض أن المظاهرات المصرية تعد خروجاً على وليّ الأمر فقد قرر أهل السنة والجماعة أن الحاكم المسلم الذي يحكم بشريعة الإسلام هو الذي لا يحلّ الخروج عليه وإن ظلم أو فسق، أما الحاكم الذي لا يحكم بشريعة الإسلام ويحاربها -كما هو الحال في مصر- فإنه يجب الخروج عليه وعزله لكن إن استطاع الشعب ذلك، وكانت مصلحة الخروج أعظم من المفاسد المترتبة عليه، وبمعنى آخر إذا كان الخروج بأقل الخسائر وأُمن سفك دماء كثيرة فإنه يجب الخروج عليه.
وتعالوا لننظر في الحالة المصرية :
1- بعد 48 ساعة من التظاهر عيّن مبارك نائباً له، وقد كنا ننتظر هذا منذ ثلاثين سنة، وأُلحّ عليه إلحاحاً كبيراً فلم يقبل.
2- بعد بضعة أيام من التظاهر أعلن مبارك أنه سيعيد النظر في الطعون الموجهة لانتخابات البرلمان، وقد كان يأبى بصلف أن يُنظر في هذه الطعون.
3- وبعد بضعة أيام من التظاهر أعلن أنه سيعيد النظر في المادتين 76، 77 من الدستور الخاصتين بترشيح الرئيس، وقد كان وضع تلك المادتين قبل بضعة أشهر نكاية في كل من يريد أن يرشح نفسه.
4- ولما اشتدت المظاهرات عَزل من حزبه الحاكم ابنه الذي كان يعدّه طويلاً للحكم وليستمر الكابوس الثقيل على أهل مصر، فعزله وسقط حظه للأبد -إن شاء الله تعالى- وعزل أيضاً المجرم الأثيم صفوت الشريف الذي أفسد في الأرض طويلاً منذ زمن العبد الخاسر إلى يومنا هذا، وعزل السارق الكبير أحمد عز الذي نهب الحديد المصري، ونهب ثروات الشعب، وهو والمجرم صفوت الشريف مَن قام بوزر تزوير الانتخابات الأخيرة.
5- ولما اشتدت المظاهرات هرع نائبه للقاء الإخوان، وقد كانوا من قبل يتحاشونهم ولا يقبلون اللقاء الرسمي بهم.
6- وقد تزلزل النظام المصري كلّه عقب مظاهرات امتدت أقل من ثلاثة أسابيع انتهت بزوال الطاغية وحكمه وأزلامه ونظامه للأبد إن شاء الله تعالى.
ـ ثم هناك أمر اتكأ عليه كثيراً مَن ردّ علي، ألا وهو أن هناك من قُتل في هذه المظاهرات، وهناك من سَرق ونهب، وردي هو: هل يمكن في حكم العقول أن يكون هناك مصلحة خالصة لا مفسدة فيها في أعمال التحرر من الطغيان، لكن العبرة بكلام أهل العلم وهو أن تكون المصلحة أعظم من المفسدة، وهنا المصلحة أعظم بكثير من المفسدة، فقد قتل في هذه المظاهرات عدد لا يقارن بمن قتله النظام في الثلاثين سنة الماضية، ولا بمن سجنه، ولا بمن عذبه، ولا بمن أقعده فجعله مشلولاً أو مريضاً مرضاً لا يُرجى برؤه، ولئن سُرقت أموال فكم نهب النظامُ من مليارات لا تعد ولا تحصى في الثلاثين سنة الماضية مقابل بضعة مئات من الآلاف أو ملايين نهبت في هذه الهبَّة الأخيرة.
أفإن قام الشعب يريد التخلص من هذا الطغيان يقال للقائمين إن قيامكم حرام لأنه قد قُتل بعض الناس، وجُرح آخرون، وسُرقت أموال؟! :
وللحرية الحمراء بابٌ * بكل يد مضرجة يدق
ـ هذا وقد علم القاصي والداني أن الذي جرى في مصر من فوضى السلب والنهب كان بتدبير النظام الحاكم، وقد تغلب الشباب المنظمون للمظاهرات على هذا الأمر وسيطروا عليه في أيام قليلة، وقاموا بما عجز عنه رجال الشرطة من توفير الأمن ومراقبة طرق المدن الداخلة والخارجة وتنظيم المرور بل استرجعوا كثيراً من الأشياء المنهوبة من المصالح الحكومية وخزنوها في المساجد، وهذا يدل على وعي وفهم من قبل القائمين على المظاهرات مما يبعد القول بالتحريم، والله أعلم.
ولم يشهد التاريخ المعاصر مظاهرات مليونية خرجت في عدة مدن على هذا الوجه من الانضباط والبعد عن التدمير والفوضى، وهذا الانضباط يُبعد القول بحرمة هذه المظاهرات.
ثم أرجو ممن أنكر عليّ تمجيدي وفرَحي بما حصل في مصر أن ينظر إلى المصالح التالية المرجوة من سقوط النظام المصري :
أولاً: تحرر الشعب المصري من الطغيان، وانطلاقه في ميادين الحرية، وتمكينه من عبادة الله وطاعته كما يحب الله – تعالى - ويرضى بدون مضايقات ولا انتظار سجون وتعذيب وترويع، والدعوة إلى الله -تعالى- بحرّية، وتمكين الشعب من الإبداع في الانتاج والعلم والتقنية التي حُرم منها طويلاً، ومنع منها كثيراً، واللحاق بركب الحضارة المادية التي تخلفنا عنها طويلاً.
ثانياً: التنفيس عن إخواننا في غزة الذين عانوا من عزل النظام المصري لهم أكثر مما عانوا من اليهود، وتضرروا من جرائمه أكثر من تضررهم من جرائم اليهود، والشواهد على ذلك لا تُحصى.
ثالثاً: التخلص من نظام عميل لكل أعداء الإسلام، وممكِّن لهم في مصر والدول التي تأتمر بأمرها في المنطقة تمكيناً كبيراً، عانى منه المسلمون وقاسوا طويلاً.
رابعاً: في زوال النظام المصري، وقبله زوال الطاغية ابن علي بُشرى عظيمة لإخواننا المسلمين المستضعفين في أكثر الدول العربية والإسلامية ممن يعانون من الظلم والاضطهاد من قِبَل أنظمة شبيهة بالنظام المصري، وأن ليلهم أوشك على الانقشاع، وأن صبحهم قريب إن شاء الله تعالى، فمن كان يظن - ولو في الأحلام - أن يتهاوى النظامان التونسي والمصري سريعاً على هذا الوجه، وسقوطهما لابد أن يكون دافعاً لباقي الأنظمة الطاغوتية المستبدّة أن تعدّل من طريقهتا وتتصالح مع شعوبها أو أن مصيرها سيكون في مزابل التاريخ، إن شاء الله تعالى، وما يجري في اليمن وليبيا مصداق لما ذكرته، والله أعلم.
ـ وقد تساءل بعض مَن ردّ علي قائلاً : ومن يضمن لنا أن مبارك إذا غادر ألا يأتي من هو أسوأ منه؟!
وأقول إن زوال ابن علي ومبارك وأمثالهما هو في حد ذاته هدف عظيم، أما من يأتي بعدهما فعلى الغالب سيتجنب مظالمهما، وسيحسن من أحوال بلاده، وعلى كل حال هذا أمر غيبـي لا نُطالَب به، إنما نُطالب بتغيير الموجود، والغيب بيد الله تعالى.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة