أبناء الهزيمة..وآباء النصر
تأخذ المذبحة في ليبيا أبعادًا لا يمكن تصورها، وذلك على الرغم من هذا التدخل العسكري الغربي الذي افتضحت فيه أوربة بقدراتها العسكرية المتخلفة عن القدرات الهائلة للولايات المتحدة الأمريكية! ويتمدد شبح المذبحة الليبية بدعمٍ من أنظمة عربية تخشى السقوط بعد أن طرقت الثورة أبوابها الموصدة في وجه التاريخ، وقلةِ حيلةِ أنظمةٍ أخرى تظن في نفسها القدرة على النجاة ...
مذبحة معلنة على "مرمى زورق" من أوربة تجري تحت بصر "العالم المتحضر" المجعجع بالقيم الحضارية الديمقراطية الغربية، التي يتدخل باسمها عسكريا وإعلاميا أينما شاء وكيفما شاء، ولكن ودائما بما تمليه عليه مصالحه، لا بما يفرضه صوت الدم والأشلاء .
في ليبيا، ومثلها سورية - والحالتان متشابهتان إلى حدّ التطابق من حيث كذب الطغيان، وتجذر وبطش أغواله في جسد الدولة والمجتمع - يبدو التدخل الأجنبي كارثة، يستوي في ذلك تدخله الإعلامي أو الديبلوماسي أو العسكري، مما يدعونا لدعوته رفع يده عن هذه الأمة جملة وتفصيلاً، وهذا كمن يطلب المستحيل! بسبب العلاقات المصيرية بين الغرب بشقيه وبين النظام السياسي الحاكم في المنطقة العربية، فإذا كان العالم لا يريد مساعدة الثوار إلا على استحياء وبقدر تلبيتهم مصالحه الآنية والمستقبلية، فليكف يده عن مساعدة الجلاد السرية والعلنية!!، كأن يحول دون أن تصله شحنات الأسلحة المتدفقة عليه من دول غربية وعربية، وأن يلجمه عن شن حربه على وسائل الإعلام والصحفيين الذين يريدهم أن يكونوا في خدمة أكاذيبه أو في القبور، وأن تُمنع إسرائيل من تقديم الدعم بالأفكار والوسائل وإدارة المعركة إعلامياً وعلى الأرض .
يبدو المشهد وكأن الغرب يمضي في طريق تقسيم ليبيا إلى دولتين متحاربتين، تعملان كلاهما على خدمته وتوفير مصالحه النفطية وفي محاربة الهجرة السرية و"الإرهاب"، أو منح القذافي وأبناءه الفرصة لسحق الثورة، والقضاء على الثوار، أي القضاء على كل إرادة للحياة والحرية لدى هذا الجيل، ليس من أبناء ليبيا فحسب، بل في كل دولة عربية يفكر أبناؤها في التحرر من هذا الحلف الرهيب "حكامنا – الاستعمار – إسرائيل" الذي يحكم الخناق على الأمة من المنامة إلى نواكشوط !.
بعد أن انجلى المشهد في تونس عن هرب "بن علي" - الذي سيذكره له التاريخ على أنه الخدمة الأجلّ والأكثر نبلاً التي قدمها حاكمٌ عربي لشعبه في بداية ثورة المنطقة الكبرى- ركب أوباما الموجة، وخرج علينا بتصريحاته المشجعة، ويوم بلغ ضغط عزم الملايين المصرية أوجَهُ في ساحة التحرير على الرغم من الضحايا وسيل الدماء، تَبَنّى "أوباما" الثورة المصرية، حتى لكأنها ابنة عينه اليمنى - دون أن ننسى تبعية الجيش المصري للإدارة الأمريكية بعتاده وميزانيته -، فالنصر حلو جميل، يتمنى الجميع أن يكونوا آباءه الشرعيين، وكل منهم يدّعي وصلا به!، أما مشكلات النفط العويصة، وضبابية هوية الثورة، و..الهزيمة والآلام، فهي أولاد يريد الجميع الفرار منها، ولا يمكن لأحد أن يحملها بين يديه ويضمها إلى صدره، إلا أمها الحقيقية ، هذه الأمة، التي يجب عليها الاضطلاع بمسؤوليتها عنها .
على الأمة من المحيط إلى الخليج أن تعرف أن هذه الثورة التي اشتعلت من سيدي بوعزيز هي ثورتها، وأن كل ما حققته جماهير تونس ومصر هو ملك لها، وأن أبناء ليبيا الجريحة وثوار سورية واليمن هم أبناؤها، وأن هذه الشعوب ممتحنة بأنظمة تتفق في الهدف والأساليب والرؤية والمضمون والهيكلة، وتختلف في طريقتها تقديم نفسها أمام العالم، والنتيجة واحدة.. تشبثها بالكراسي والسلطة، واستمرارها في البطش الإجرامي لتحقيق ذلك وبأي ثمن، وكما غنّت الأمة للنصر، فعليها أن تتداعى اليوم لتضميد جراح ليبيا واليمن وسورية ، برفد هذه الثورات بكل ما يمكن، وبالإعداد والاستعداد لأيام طويلة عصيبة مؤلمة، بعد أن تورطت هذه الانظمة في طريق الانتحار التاريخي. .شأنها في ذلك شأن كل مستبد من عصابات السراق من أصحاب الأخاديد!.
يجب أن نستعد لأيام الإخفاقات والمحن، كما نتبنى نجاحات النصر ونقطف ثمارها، فإن آباء الانتصارات ومدّعوها كُثُر، ولكن أبناء الهزيمة، هم أبناؤنا، أكبادنا التي خرجت أخيرًا على الظلم المربع الذي يستند إلى قدرة مذهلة على البهتان والتلفيق، ومن حقهم أن نقوم بالواجب الذي تفرضه علينا هذه المعركة، معركة الحرية والكرامة والحياة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن