يا مِلح البلد...
يا معشر العلماء يا مِلح البلد..ما يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟
من يُخبر شاعرنا الحكيم بأن كمية من «مِلح البلد» لم تَفسد فحسب بل ذابت في «قصعة السلطان»(1)؟
من يُخبره بأن البعض ممن ائتمنهم الله على دين الناس خان الأمانة وطال فسادُه دينَ الأمة ومعه مصير «البلد» وحياة «ناسها»؟
نكبتُنا أيها المسلمون ابتدأت يوم أن اندسّ أدعياء العلم بين العلماء الصالحين فلبسوا زِيّهم وتفصحنوا وتفيقهوا وصاروا أبواقاً لسلاطينهم يفصّلون لهم فتاوى على قياسهم ويلمِّعون صورتهم أمام شعوبهم ويُدخلون في الدين ويُخرجون منه بحسب رضاهم عن فلان أو سخطهم على علاّن.
لم تأت الثورات بجديد فيما يتعلق بأبواق الحكام، وإنما وضعتهم تحت المِجْهر لتكبر سوءاتُهم وليظهر تواطؤهم جلياً لا مجال فيه لحُسن الظن والتماس العذر من السبعين؛ فهذا الذي يتباكى على الزعيم، وذاك الذي يتدخل في نوايا الناس فيُعطي شهادات لمن يصلي لله ولمَنْ صلاتُه رئاءَ الناس، ويحكم على هذا بأنه عميل متآمر، وآخر بأنه وطني شريف... وثالث يبرر للزعيم إجرامه السياسي والأمني... ورابع يحرِّم الخروج على «وليّ الأمر»... وكأنه يعيش في كوكب آخر غير الأرض... فمجازر الطغاة الغارقين في دماء شعوبهم عند هؤلاء المفتين تصبح قلوباً حمراء تتدفق لتغمر الشعوب حباً وحناناً، والسجون حدائق غنّاء، والكدح الشاق لتأمين لقمة العيش سياحة خمس نجوم وعَيشاً رغيداً...
عندما ضَعف دور العلماء في حياة الأمة ثم خبا وتلاشى ثم تبدّل وانقلب... أصبحت المتاجرة بالدين هي «السوق الرائجة» التي يتهافت عليها المتساقطون على طريق العلم والعلماء.
والذي يتتبّع تاريخ «بازار الفتاوى» تصعَقُه الصدمة... فعندما قرر الزعماء العرب رفع اللاءات الثلاث في وجه الصهاينة إبان نكسة 1967 وهي: لا صلح، لا مفاوضات، لا اعتراف بـ «إسرائيل»... كانت الفتاوى المحرِّفة لمقاصد آيات من كتاب الله جاهزة: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). وعندما عقدت بعض الدول العربية اتفاقيات الاستسلام مع الكيان الغاصب استُحضرت الفتاوى بفَهم أصحابها الخاطئ العقيم لقوله عز وجل: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)، (ادخلوا في السِّلم كافّة)، وعندما تبنّت بعض الدول النظام الاشتراكي وجدنا من يروِّج للاشتراكية باسم الإسلام، وصار للاشتراكية أصل في دين الله وهَدْي رسوله باستدلالٍ ليس في موضعه بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم ✽ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، وبقول رسوله: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» رواه أحمد وغيره، ثم لما تحول بعضهم عن النظام الاشتراكي كان عند «مشايخ السلطان» فتاوى حاضرة: «من لا إيمان له لا أمان له» والرفاهية حق للمؤمنين: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا...). وعند استحقاق «كيرمس» الانتخابات - في أخطر جريمة (تطاوُل) على سيادة الشريعة بانتخاب مَن يُعطَوْن حقّ التشريع من دون إذنٍ من الله في مجالس الشعب - يُصبح صوت الشعب «المطحون» أمانة يُسأل عنها يوم القيامة، وشهادة عليه أن يؤدِّيها: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَة وَمَنْ يَكْتُمهَا فَإِنَّهُ آثِم قَلْبه)(2).
وهكذا... الفتاوى جاهزة وتحت الطلب، و«المفتي» يتشكّل ويتلوّن ويغيّر ويبدّل ويفصّل ويُعلِّب فتاوى بحسب مصالح ومخططات أسياده وأولياء نعمته، أما التوصيل فليس مجانياً بل ثمنه باهظ يدفعه «المفتي» في الدنيا من دينه وكرامته وماء وجهه، وفي الآخرة عذاب أليم؛ قال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ), وقال صلى الله عليه وسلم: «... من أتى أبواب السلاطين افتُتن، وما ازداد عبد من السلطان دنوّاً إلا ازداد من الله بُعداً» رواه أبو داود والبيهقي، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «العلماء أُمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا خالطوا السلطان، فقد خانوا الرسل فاحذروهم، واعتزلوهم» رواه الحاكم وغيره (3).
وقد ورُوي أنه جاء الإمامَ القدوةَ سفيان الثوري خيّاطٌ فقال: إني رجل أخيط ثياب السلطان، هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال سفيان: بل أنت من الظلَمة أنفسهم!! ولكن أعوان الظلمة مَن يبيع منك الإبرة والخيوط. ويرى كثير من علماء الأمة «الحقيقيين» أن من قرّب للطغاة حتى الدواة يُعتبر مداهناً لهم ومُعينهم على طغيانهم.
فليتق الله حاملو هذا اللقب، وليرتِّبوا على علمهم مقتضاه، وليعلموا أن مداهنة الظالم وتلميع صورته وكَيل المدائح له تحت أي ذريعة، لن يغيّر من الواقع شيئاً، بل إنه يطمس الحقائق ويزيّف وعي الشعوب فيضطرب عندها ميزان التمييز بين الحق والباطل، ويزيد الحاكم طغياناً وإمعاناً في الظلم.
إن أهم واجب منوط بالعالم: الصدعُ بالحق وتبيينُه للناس بحكمة وتهيئة أسباب الاختيار الصحيح لهم: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)، والإقلاع عن تمويه الحقائق وعن التذبذب في المواقف: (... وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) كما قال ربّنا مبيِّناً سبحانه أحد أعظم مقاصد رسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي يجب أن تظهر للناس فلا يلتبس عليهم الأمر ولا تختلط السُّبل، إنما هو الوضوح التام والفصل الكامل بين السبيلين.
وأخيراً، فليعلم كل «مفتي سلطان» أن سياسة النفاق السياسي والديني التي ينتهجها لقاءَ مالٍ أو منصب أو حُظوة لن تنفعه في شيء، وقد شهدنا اليوم الذي أُزيح فيه المفتي عن المشهد العام بسقوط «سلطانه»؛ فلينقذ نفسه مَن بقي متردداً بين الانحياز للحق وأهله أو الالتحاق بركب الطاغية وزمرته... قبل أن يأتي اليوم الذي يرميه فيه كالخِرقة البالية بعد أن استخدمه وسخّره لخدمته... ليسجّل التاريخ بجانب اسمه (منتهي الصلاحية).l
l هواميش:
1. صحيح أننا ابتُلينا بهذا الصنف من المنتسبين زوراً لأهل العلم، إلا أنّ في الأمة من العلماء الحقيقيين العاملين والدعاة المخلصين ما يُثلج الصدور ويملؤها أملاً بالله ويقيناً بأن المستقبل لهذا الدين بما فيه من أهل علم وصلاح الذين حَفِظ الله بهم هذا الدين.
2. كل ما تقدّم من آيات له مدلولاته التي تفسّر في سياقها وبحسب مراد الله منها، والمقالة ليست موضع بيان ذلك.
3. ذكر الإمام السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» بأن «الحديث له شواهد كثيرة حسنة وصحيحة ويفوق عددُها الأربعين حديثاً ويُحكَم له معها على مقتضى صناعة الحديث بالحُسن». وأورده من جملة أحاديث كثيرة في جزئه «ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين».
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة