دلوني عليها
ما سأخبركم به، أوجهه إلى أصحاب القلوب الحية، والآخرين ممّن غُلّقت قلوبهم بالأقفال فعسى ولعلّ ينبلج نور بصرامة السيف يشق المتاريس فتنقشع الظلمات فيذوقون ويعرفون... بكل صدق سأفتح لكم قلبي لنعيش معاً هذه التجربة الفريدة من نوعها، تجربة نزيدها على لائحة العظمة في سجلّ المستحيل عندنا اليوم ولكنه ما كان مستحيلاً على أصحاب سيّد البشر صلّى الله عليه وسلّم.
اسمها نقش في قلوب المسلمين نساءً ورجالاً، باتت علماً من أعلام النساء ومضرباً للمثل للزوجات النادرات في الإخلاص والتبعُّل. لا شيء سوى أنّها تغلّبت على معايير النفس البشرية وحلّقت عاليا في عالم النفس البشرية وحلّقت عالياً في عالم النور والصفاء والطهر. فكانت بأن تنال ذاك الإعجاب والإكبار لدى الناس.
صدّقوني يتحيّر الواحد منّا، ما جبلتهم ما طينتهم؟ هم بشر مثلنا بالشكل فقط ولا تسل عن باطنهم وعمّا احتوته سرائرهم, ترجم كل ذلك سلوك مغاير لسلوك البشر. بماذا نفسّر ظن الصدّيق رضي الله عنه أنّه نافق وعندما سأله الحبيب المصطفى لم؟ قال بأنه بين ولده ومع أهله يختلف عن الهيئة التي يكون فيها مع النبي فيجيبه بما يشفي صدره الطاهر النقي بأن لو داوتم على تلك الهيئة معي ومع أهاليكم وفي أشغالكم لصافحتكم الملائكة. وإنها لنفوس غيرعادية وقلوب مصطفاة من لدن الله جل جلاله ليقرّ عين صفِيَّه محمّد فلا يخلف أصحاب محمد محمداً بعد موته إلا بالخير وبالعدل و بالرحمة فيكونون نعم الخلف وهذا ما كان يقلق النبي صلّى الله عليه وسلّم في حياته دوماً، لما علمه من سيرة اتباع النبي موسى علبه السلام وكيف خلفوه لا أقول بعد موته ولمن بعد تركهم أربعين ليلة –حيث عبدوا العجل بسرعة مخيفة ما توانوا ولا انتظروا نبيّهم من أين يا ترى؟ من لقاء ربّه تصوروا...
وكانوا شر الخلق بعد موت موسى عليه السلام, فالخوف كان من أين يحصل مع أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ذلك. فكان في كل مناسبة يطلب منهم ألّا يكونوا كأصحاب موسى عليه السلام وكان الله تعالى قد انتقى للنبي أصحاباً نجوماً في سماء النبوة لمن أسلم وآمن من أمة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم فيما بعد.
انها أم سليم, فجعت بموت وليدها وكان زوجها من بلد آخر وفي آخر يوم سيرجع الزوج التعب منهوكاً جائعاً يريد الراحة والسكن..
وكان الوليد محبوباً عند والده وكاد ألا يسافر عندما رآه مشتكيا-أي يشتكي مرضاً- مات الوليد وعم الحزن أرجاء الدار ومن الطبيعي أن نرى أماً تبكي وتنتحب لا تذوق ولا الشراب، لااا يهدأ لها دمع ولا يرق لها جفن...
ويعود الوالد ليلاً فيسأل عن الوليد فقد كان طوال الطريق مشغول البال مهموم، فكان الجواب الحكيم: أسكن ما يكون! اطمئن للأمر، ولكن ما صفة وهيئة أم سليم حتى لم يبد عليها أي أثر لموت الوليد؟
هل فكرتم معي كيف استقبلته فلم يلاحظ جديداً؟ كانت مثلما تركها قبل سفره نشيطة متوردة فرحة لطيفة، قدّمت له الطعام وربما هي لم تذق الطعام أبداً! وعندما شبع تزيّنت له. كما ورد في الرواية – أحسن ما كانت تتزيّن! لله درّك أم سليم ما هذه العظمة التي اكتنفتها شخصيتك؟
وعندما كان بينهما ما يكون عادة بين المحبين الزوجين، بادرت لإخراج السرّ العظيم الذي طواه قلبها وعصره عصراً حتى ما بان منه شيء أمام زوجها الحبيب.. آن لصدرك أن يخرج آهاته. إن أعارك قوم عارية وعادوا وطلبوا عاريتهم أكنت معطيهم إياها؟ احتسب ابنك عند الكريم المنان...
لم يقتصر دورها على كتم السرّ والترويح عن الزوج وانتهت من ذلك وكفى ليعلم بعدها الخبر بالطريقة التي تكون، بل اتقنت عملها حتى النهاية لتحصل الثمرة المرجوة والمنفعة المنشودة والعبرة بالنهاية، فكانت النهاية أجمل من البداية وكمّلت التضحية الرائعة بقفلة بطولية توّجت تلك الطاعة بالكلام الحكيم.. فتفوّقت أم سليم على نفسها وتفوّقت على زوجها الذي ما إن علم بالأمر حتى غضب وأسمعها كلاماً غليظاً – ردة فعل عادية ومتوقعة منه لأن الذي لمسناه من أم سليم كان غير عادي وإلا لاستوى الموقفان فتأمل!-
وخرج غضبان أسفاً ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وهي جلست تتأمّل ما جرى.. ولو كانت تبغي بما فعلت رضى زوج، بشر من الخلق. لكرهته وكرهت نفسها وازدرت فعلتها وأحبطت زاسودت الدنيا في عينيها فلا هي أرضت الزوج ولا عاد ابنها لها.. خسرت الاثنين
لكن الله أبوهان كانت تريد بتضحيتها تلك طاعة كاملة لربها خالقها.. كانت تريد رضاه لا غير فما أزعجها ما بدر من أبي طلحة، الصحابي الجليل وما أحبطها ردة فعل زوجها بما سمع فهو بشر وتلك ردّات فعل طبيعية..
أقول امرأة أخرى لكفرت بالحياة الزوجية وبزوجها ولعدّت نفسها دنيئة كريهة وكثير غير هذا.. ولكن ما علّمها إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نبراساً لها أخذ النور بيدها ودلّها على الصراط المستقيم فتبعته عالمة بحقّه، حتى هذا الصراط وما يعتوره من مزالق وما يحفّه من مكاره ومستعدة لتحمل أذى الأشواك النابية هنا وهنا، لا تلقي بالاً للعواصف التي تهبّ.. تمضي والله عزّ وجلّ يمدها بالرضى والعزم إلى أن تلقاه وهو عنها راض. تلك العنوان النادرة على كل امرأة مسلمة أن تتحلّى بها وذلك لأن الدرب الآن أصعب مسلكاً وأخطر منزلقاً لبعدنا عن ذلك النور الذي استضاء به الصحابة بمليء إرادتنا ابتعدنا عنه واتخذنا أنواراً باهتة شاحبة لا تغني ولا تسمن كم رقتنا لضعفنا في أتون النار والرذيلة، كم جرّتنا كحبال الشيطان الكثيرة، إلى البوائق والفتن المدلهمة المظلمة؟ كم وكم. ألا من مبصر يدلنا على النور الذي فقدناه! ألا من رجل رشيد يأخذ بيدنا إلى بداية الطريق؟ ضعنا في المسالك التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم على جنبات الصراط وحذّر منها أصحابه. ونحن غرقنا ةغرقنا..
هلموا للعودة، هلموا نبحث عن ذاك النور، لعمري فالله بنا رحيم رحمان ما حرمنا إياه لكثرة اجترائنا عليه بالغفلة والعصيان والمبارزة بالخطايا بل أبقاه لنا، لمن يريد أن يعود. لا يأس مع الله فاليأس كفر ونحن أمة مؤمنة نحب الله ورسوله وأصحابه أكثر من حبنا لأنفسنا الأمارة بالسوء..
نبراس البشرية موجود بسيرته وعطر حياته وحياة صحابته متى استدركنا على أنفسنا وانكببنا على ذواتنا وتركنا اليد الؤوفة الرحيمة بنا تأخذ بيدنا سرنا معها إلى السعادة أبداَ.
أعود للسيدة أم سليم لأعلم ماذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة!
بارك الله في غابر ليلتكما، فرزقا ذرية صالحة حافظة لكتاب الله.
فالجزاء أعظم من التضحية الرائعة.
وكلنا يبقى ذرية صالحة مصلحة..
ولا أعلم في تاريخ البشرية قصة تفوق بروعتها هذه القصة..
وإن وجدت دلوني عليها..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة