الابتلاء: تمحيص وارتقاء
جرت سُنّة الله في عباده أن يمتحنهم ويبتليهم ليميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من الكافر أو المنافق، والصادق من الكاذب، وفي ذلك يقول تعالى: (أحَسِبَ النَّاسُ أن يُتْرَكُوا أن يَقُولوا آمَنّا وهُم لا يُفتَنُون؟ ولقَد فَتَنّا الَذِينَ مِنْ قَبْلِهِم فَلَيَعْلَمَنّ اللهُ الَذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنّ الكَاذِبين).
فالمؤمن الصادق إذا أصابته المحنة صبر واحتسب، لا ينحني ولا ينثني ولا يَحيد، راضياً بقدر الله، مترفعاً على الآلام، مستسلماً لله، تؤدِّبه المحنة والمصائب تهذّبه وتَصهَره وتصقله، فتزيده إيماناً وثباتاً، وعزيمة ومضاءً، كالذهب الذي لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء وبهجة .
أما المنافق أو الكافر، فإذا ما نزلت به نازلة فزع واضطرب، وجزع وغضب، وانقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. ففي حديث لأبي أُمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله ليجرّب أحدَكم بالبلاء، وهو أعلم به، كما يجرّب أحدُكم ذهبَه بالنار...» رواه الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي .
فلا بد من تربية نفوس المؤمنين بالابتلاء، بالمخاوف والشدائد، بالجوع والعطش، بنقص الأموال والأنفس والثمرات، لتكون كفارة لذنوبهم، ماحية لخطاياهم وآثامهم، فمن مسّه الضُّرّ في فتنة من الفتن، أو في ابتلاء من الابتلاءات، فصبر ولم يجزع، وتشجع فلم يسخط، كان صبره رحمة له وبشرى من الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الأَمْوالِ والأَنْفُسِ والثَّمَرات وَبَشِّر الصَابِرين....). وقد ورد في صحيح مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمنَ من نَصَبٍ ولا وَصَب ولا هَمّ ولا حَزَن ولا غمٍّ حتى الشوكةُ يُشاكها، إلا كَفَّر اللهُ بها من خطاياه». ومن رحمة الله بعباده أن يعجّل لهم العقوبة على المعاصي في الدنيا حتى تزكُوَ نفوسهم وتعود إلى الله، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبدٍ الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبدٍ الشرّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافَى به يوم القيامة» رواه الترمذي وقال حسن صحيح .
وقد يبتلي الله المسلم (أو المسلمة) لا عن ذنب اقترفه، ولا عن معصية ارتكبها، ولكن ليرتقي به وليرفع من درجاته ويزيد من حسناته، بل إن الابتلاء له دلالة على محبة الله تعالى لعبده المؤمن، فقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عِظَم الجزاءِ مع عِظَم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السُّخْط». حتى إنّ أهلَ البلاء يُغبَطون يوم القيامة لعظيم ثوابهم، يقول صلى الله عليه وسلم: «يودّ أهلُ العافية يوم القيامة حين يُعطَى أهل البلاء الثواب لو أنّ جلودَهم قُرضت في الدنيا في المقاريض» رواه الترمذي .
وهكذا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَن قبله من الأنبياء أشد الناس بلاءً، غير أنّه اجتمع لنبينا صلى الله عليه وسلم ما حصل لكل الأنبياء؛ ابتُلي في أهله وماله وولده، أُصيب بالجوع والعطش، والنَّصَب والتعب، توالت عليه المصائب فلم تزده إلا إيماناً وتثبيتاً واعتصاماً بالله، صبّت قريش جام غضبها عليه - فداه آباؤنا وأمهاتنا - فما كان منه إلا أن قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» رواه البخاري .
وبذلك تعلّم الصحابة من نبيّهم أنّ عِظَم الجزاء لا يكون إلا تحت مطارق الشدائد؛ فعندما اشتكى خباب ابن الأَرَتّ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه والمسلمون من التعذيب والظلم والاضطهاد، ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له تسليةً وتثبيتاً: «قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار، فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدّه ذلك عن دينه»!! رواه البخاري في صحيحه .
ويمضي المسلمون إلى ميادين البطولة والجهاد، وساحات القتال والاستشهاد، يجودون بدمائهم لنُصرة دينهم ولسان حالهم يقول: (وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى).
فيا مَن عصفت بكم المصائب والكُرُبات، أُسوَتُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا تسخطوا ولا تجزعوا، بل تفاءلوا وأبشروا... وتقرّبوا إلى الله بقلبٍ صادقٍ خاشع، واعلموا أن مع العسر يُسراً .
وأنت يا أختي المسلمة، إذا حلّت بك الهموم، واشتدت الكروب، وعَظُمت الخطوب، وضاقت عليك الدروب، فاقرعي بابَ الحيّ القيّوم، بابَ مَن لا يَرُدّ سائله ولا يخيِّبه... اذرفي الدموع وقولي: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، يا سامعاً لكلِّ شكوى، ويا عالماً بكلِّ نجوى، يا سابغ النِّعَم، ويا دافع النِّقم، اكشف كُربتي، وارحم عَبرتي، وأَقِل عثرتي، وفرّج همّي وغمّي .
ويا أيها الثابتون على الحق، الصابرون على الحاجة والفَقر، أيها الواقفون في وجه الباطل، يا من تُهدَّدون وتُعذَّبون وتُقصفُون، رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوتُكم، فسيروا في طريقكم، وإنّ الله لن يُضيِّع جهادكم، فهو ناصر المؤمنين، وقاهر الطغاة والظالمين، ومُذلّ المنافقين والمتخاذلين والمثبِّطين، وعندها سيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقَلَبٍ ينقلبون.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة