علمتنا الكثير يا صغيري
هذه وقفة تملأ العين دموعاً وتملأ القلب إكباراً، وتزرع الأرض أملاً وثقةً بنصر الله.. وقفة أمام لوحة أخرى خالدة من لوحات الثورة السورية العظيمة.. بل واحدة من أعظم هذه اللوحات ..
لوحة يرسمها صبي صغير لم يجاوز الثانية عشرة من عمره، بكلمات قليلة تطفح صدقاً وإيماناً، تجري على لسانه الغض بعفوية صادقة خارجة من قلبه الصغير.
عليّ الصغير؛ شهيد باقٍ بين الأحياء، في سورية الشهيدة التي يزحف عليها الموت في كل يوم، شكله شكل شهيد وكلماته كلمات شهيد، فقَدً إحدى عينيه وكلتا يديه في مسيرة الحرية التي يمشيها أهل سورية منذ خمسة عشر شهراً.. في حرب مجرمة تشنها عصابات النظام الفاجر على الشعب كله لأنه يطلب حريته، لم تستثن فيها النساء والأطفال.
استضافه الإخوة الكويتيون في حديث قصير لا يستطيع من يشهده أن يمنع نفسه من البكاء. يبدأ الحديث معه بسؤاله كيف يتدبّر أمره بلا يدين، فيجيب بابتسامة يشوبها حزن دفين أنه لا يقول إلا الحمد لله، يقولها بكلمتين يخرج كل حرف منها من أعماق قلبه ويشع منها الرضى بما كتبه الله عليه، ويتابع أنه أحسن حالاً من غيره من الذين فقدوا أيديهم وأرجلهم، ثم يقول بيقين راسخ: أنه سعيد لأن يديه قد سبقتاه إلى الجنة وهذا أمر لا يتاح لكثير من الناس، وقد أعطاه الله أربعاً؛ يدين ورجلين، فأخذ اثنتين وأبقى له اثنتين، وأعطاه عينين اثنتين فأخذ واحدة وأبقى له واحدة، ليري فيها النصر يوم النصر. ويختم بطلب الدعاء من الشعب الكويتي أن ينتصر الشعب السوري ويعود إلى بلده.
* * *
طفل امتلأ قلبه بالإيمان فأسبغ الله عليه صبراً ورضى وعزيمة لا يكاد الكبار يقدرون عليها.
هنيئاً له بما أنعم الله به عليه، وهنيئاً لأبيه وأمه بنتاج تربية عظيمة، وهنيئاً لثورة سورية بجند هذا شكل أطفالهم ورجالهم ونسائهم.
لن يخذل الله هذه الثورة طالما ضمت هذه القلوب المؤمنة الصابرة المصممة على المضي حتى النصر أو الشهادة.
* * *
هذا واحد من أطفال الحرية، أطفال هذه الثورة الذين يواجهون في طفولتهم الترويع والتشريد والسجن والتعذيب والقتل والذبح بدلاً من أن يعيشوا اللهو والفرح الذي ينعم به بقية الأطفال.. لأنهم يريدون العيش أحراراً، كما خلقهم الله أحراراً وكما ولدتهم أمهاتهم أحراراً.. طفل صغير في سنّه، كبير في وعيه وإيمانه وثباته وتصميمه..
طفل على أرض سورية في القرن الواحد والعشرين يحمل قلب ويتكلم بلسان أبناء الصحابة على أرض الرسالة في عصر الرسالة، لأنه تربى على هذه الرسالة وعاشها وحملها للناس في الكلمات التي قالها..
ما أعظمها من أرض، أرض سورية التي ثارت على الظلم، فأنبتت مثل هذه النبتات المباركات بعد أن تسممت طويلاً بسمّ البعث والكفر والاستبداد والاستعباد.
* * *
لله درك يا عليّ.. أيها الصبي الصغير العظيم العزيز..
علمتنا كيف تكون الرجولة وأنت لم تبلغ مبلغها..
علمتنا كيف نتطلع لأولاد مثلك وكيف نحاول أن نربي أولاداً ليكونوا مثلك.. أو يشبهوك..
علمتنا كيف يكون الإيمان وأنت لم تعرفه إلا سنوات قليلة مضت من عمرك، لكنه وقر في قلبك الصغير وقراً لا تكاد تعرفه القلوب الكبيرة.. وصدّقه لسانك الصغير في كلمات عجز عن بلاغتها الأدباء والشعراء في لهجة تلقائية صادقة.. وظهر على جوارحك المبتورة التي بذلتها لله رخيصة بصدق وإخلاص ورضى يعجز عن مثله أصحاب الأطراف الكاملة.. علمتنا كيف يكون الإيمان راسخاً كالجبال لرواسي..
علمتنا كيف نحمد الله على ما آتانا، ونحن نسمعك تحمد الله على ما استبقى لك.. وجعلتنا نخجل من أنفسنا ونزدري الشكر الذي كنا نشكر الله به على نعمائه..
علمتنا كيف يكون البذل وكيف يكون الصدق فيه عندما بذلت أعز ما لديك دون أن يفارقك الرضى بما قسمه الله لك..
علمتنا كيف تكون التضحية وصدق التضحية في مشهد تضحية ينحني له التاريخ..
علمتنا كيف هي البصيرة ونحن نراك أكثر بصيرة بعينك الواحدة الباقية من كل أصحاب العيون الكاملة..
علمتنا كيف تكون العزيمة ونحن نراك أقوى عزيمة وأنت بلا يدين من أصحاب الأيدي السليمة العضلات المفتولة..
علمتنا كيف نطلب النصر من الله عندما أُعطيت ما تسأله فلم تسأل إلا الدعاء، لأنك علمت قول الله: “وما النصر إلا من عند الله” وصدّقت وعد الله: “ولينصرن الله من ينصره”.
علمتنا الكثير في كلمات قليلة قلتها في دقائق معدودة فكانت مدرسة للأجيال الذين نرجو الله أن يسيروا على خطاك..
علّمتنا الكثير يا صغيري الكبير وجعلت الكبار صغاراً..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة