محنة الداعية!
إن محنة الداعية المسلم لا تكمن في في معارضة الكفر له، ولا في سجنه وتعذيبه وتجويعه، بقدر ما تكمن في استرخاء همته والتذاذه بالراحة ..
ما محنة الداعية الا لهوه وغفلته وجلوسه فارغًا، وربما زاد فينفتح له باب من اللغو بعد اللهو .
تلك هي المحنة الحقيقة التي تفتعلها الجاهلية للدعاة بما تعرض للناس من مغريات وأسباب لهو وتلفت أنظارهم اليها.
وما انتصار الداعية إلا في أن تعاف نفسه ما لا يؤثّر في تقدّم دعوته ..
إن غفلة الداعية محنة، لأنها صرفته عن نصر ممكن يحققه له الجد العمل الدائب، وعن أجر وثواب أخروي ليس له من مقدمة إلا هذا الجد.. وسيظل اسمنا مكتوب في سجل الغافلين الفارغين ما دمنا لا نعطي للدعوة إلا فضول أوقاتنا، وما دمنا لا نشغفها حباً ولا نتخذها حرفة.
إن الداعية المسلم لا يملك نفسه حتى يسوغ له أن يمنح نفسه إجازة، وإنما هو ـ كما شبهه بعض الأفاضل : (وقف لله تعالى)ـ تمامًا كنسخة القرآن الكريم حين توقف لله تعالى وتوضع في مسجد من مساجد الله. فكل داعية موقوف لله، جزء من أجزاء دعوة الله .
وإن فضول الأوقات ليست قليلة ومحدودة فحسب، وأنما هي أردأ ساعات اليوم، حيث يكون فيها الذهن والجسم متعبين أشد التعب .
وما تجاوز الأستاذ المودودي أعراف أجيال الدعاة حين صارحنا في تذكرته القيمة وقال: (إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متقدة تكون في ضرامها على الأاقل مثل النار التي تتقد في قلوب أحدكم عندما يجد ابنًا له مريضاً ولا تدعه حتى تجره إلى الطبيب، أو عند ما لا يجد في بيته شيئًا يسد رمق حياة أولاده ولا تزال تقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي.. إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة صادقة تشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم وتعمر قلوبكم بالطمأنينة وتكسب لعقولكم الاخلاص والتجرد وتركز عليها جهودكم وأفكاركم بحيث إن شؤونكم الشخصية وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين. عليكم بالسعي أن لا تنفقوا من أوقاتكم وجهودكم، فتكون معظمها منصرفة لما أتخذتم أنفسكم من الغاية في الحياة. وهذه العاطفة ما لم تكن راسخة في أذهانكم، ملتحمة مع أرواحكم ودمائكم، آخذة عليكم ألبابكم وأفكاركم، فإنكم لا تقدرون أن تحركوا ساكنًا بمجرد أقوالكم)ـ ولم يتجاوز حين كرر وقال ثانية: (اسمحوا لي أن أقول لكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبرد من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم وآباكم وأمهاتكم فإنكم لابد أن تبوءوا بالفشل الذريع، وبفشل لا تتجزأ بعده أجيالنا القادمة على أن تتفكر في القيام بحركة مثل هذه إلى مدة غير وجيزة من الزمان.. عليكم أن تستعرضوا قوتكم القلبية والأخلاقية قبل أن تهموا بالخطوات الكبيرة).
إن من يطالب الدعاة الآن بإلغاء الراحة فإنه إنما يستند إلى مادة واضحة في قانون الدعوة والدعاة سنها عمر الفاروق رضي الله عنه تنطق بصراحة أن: ( الراحة للرجال : غفلة)، وجددها إمام المحدثين شعبة بن الحجاج البصري فقال: (لا تقعدوا فراغًا فإن الموت يطلبكم)، وعنه نقلها معاصره حبيب العجمي إلى بغداد، ومنها بعض تعريض يستحقه كل قاعد فقال: (لا تقعدوا فراغًا فإن الموت يطلبكم)، فإن من أراد الراحة والسكون فإن الموت والقبر يزودانه منهما حتى يشبع.
وكأننا ـ والله ـ أهل لهذا الاستهزاء، فقد أسرفنا في الغفلة، لابد من عزيمة نفطم بها نفوسنا عن اللهو .
إننا حين نثبت جواز التمتع بالمباحات فلكي يعلم من نخاطبه أننا لا ندعو الى مثل الطريقة المبتدعة التي كان عليها الزهاد من الجوع والعري والرهبانية، وإلا فلا يزال جواب ابن الجوزي يصلح جوابا لنا حين سأله سائل: ( ايجوز أن أفسح في مباح الملاهي؟)، فقال: (عند نفسك من الغفلة ما يكفيها)، كلمة ما أصدقها توقف المتطاول منا عند حده .
عندنا من الغفلة ما يكفينا.. فإن اعترض ملتذ براحته وقال: إيتوني بكلام صريح فقهي بعيد عن المثاليات ومجازات البلغاء: أجبناه بجواب ابن القيم، فإن فيه ما يبقي حجتنا، فكأنه رحمه الله جاوبه بمثل هذا الاعتراض فقال: (لابد من سنّة الغفلة ورقاد الغفلة، ولكن كُن خفيف النوم).
فكن خفيف النوم أيها الداعية المسلم لتحصل لك هذه الهمة العظيمة.. و انتبه من رقدة الغفلة.. فالعمر قليل.. واطرح (سـوف) و(حتى) فهما داء دخيـل.
وترك الفراغ، والاستيقاظ من رقدة الغفلة، معناها التعب، واستفراغ الوسع في العمل لله. نطق بذلك الإمام الشافعي، ونفي أن تصح مروءة داعية يطلب الراحة فقال: (طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات، فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان).
ولما سئل احد الزهاد عن سبيل المسلم ليكون من صفوة الله قال : إذا خلع الراحة، وأعطى المجهود في الطاعة).
فالداعية الصادق بخلع الراحة، ويعود لا يعرفها، وتصبح عنده ذكريات شبابه الأول وصباه فحسب.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة