كيف تعاملت أمريكا مع الثورة السورية؟؟
قرأت كتابات كثيرة تقول إن أميركا أهملت الثورة السورية لأكثر من سنة ولم تحدد موقفها منها إلا مؤخراً. هل تصدقون ذلك؟ هل يُعقل أن تترك الولايات المتحدة سوريا بلا متابعة ولا خطة طوال تلك الشهور العشرين من عمر ثورتها المباركة؟ لا يمكن. إذا كانت أميركا تتابع ما يجري في كل مكان في العالم يوماً بيوم فإنها تتابع ساعةً بساعة ما يحصل في منطقتين على الأقل:
حديقتها الخلفية (أميركا اللاتينية)، ومنطقة الشرق الأوسط.
لقد تفاعلت الإدارة الأميركية مع الثورة السورية منذ يومها الأول، وما ترونه منها اليوم إنما هو بداية ”المرحلة الرابعة” من مراحل العلاقة بين الطرفين. سأحدثكم عن المراحل الثلاث السابقة باختصار، فإن أكثر القراء يحبون الاختصار، على أنني أشتغل في كتابة الوصف المطوّل لتاريخ تلك العلاقة، وأرجو أن أنشره قريباً بإذن الله في مقالتين منفصلتين (أتمنى أن لا يقرأهما إلا المهتمّون بالتفاصيل وأن لا ينتقد طولَهما أحدٌ من القراء).
“المرحلة الأولى” بدأت مع بداية الثورة واستمرت إلى نهاية شهر تموز 2011، أي أنها استمرت أربعة أشهر ونصفَ شهر. في ذلك الوقت المبكر كان الهدف الأميركي هو إنهاء الثورة بأقل الخسائر (أعني خسائر المصالح الأميركية وليس الخسائر البشرية السورية، ولماذا يهتمون بنا؟) أرادوا المحافظة على النظام السوري وعلى العصابة الحاكمة دون أي تغيير، ولكنهم أدركوا أن الثورة لن تقف ما لم يتم استرضاؤها ببعض”الإصلاحات” الحقيقية، فضغطوا على القيادة السورية ضغطاً شديداً (ظاهراً وخفياً) لتنفيذها، وفي الوقت نفسه أباحوا لها أن تخنق الثورة خنقاً لطيفاً بقوة غير مبالَغ فيها وبلا ضجيج، وظنوا أن تلك الخطة ستنجح في احتواء الثورة وإنهائها.
أنتم تعرفون ما حصل؛ لقد أراد الله بالثورة خيراً وأنقذها من الضياع، فسخّر لها حماقةَ عدوّها! رفض النظام الاستجابة إلى أي ضغط وأصرّ على المضيّ في الحل الأمني القمعي الأصمّ الأعمى، وفي تلك الأثناء كانت الثورة تزداد اشتعالاً وانتشاراً، وبالنتيجة وصل الأميركيون إلى اليأس من الأسد، ووصلوا أيضاً إلى قناعة بأن الأمور ستخرج من يده ومن أيديهم، فانتقلوا إلى المرحلة الثانية.
“المرحلة الثانية” بدأت باقتحام جيش النظام مدينةَ حماة صباح يوم الإثنين الأول من آب (1 رمضان) واستمرت إلى نهاية عام 2011، أي بطول خمسة أشهر. خلال تلك المرحلة توقفت الإدارة الأميركية عن ضغطها على القيادة السورية لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وبدأت بتطبيق خطة لعزلها عن بقية مكوّنات النظام، بهدف الحفاظ على الجزء الأكبر منه والاكتفاء بإسقاط القيادة العليا: الأسد والعصابة المحيطة به، والتي تتحمل الجزء الأكبر من الغضب الشعبي والجزء الأكبر من المسؤولية عن قمع الثورة.
أراد الأميركيون إنهاء الثورة بتغيير القيادة فقط، دون الإضرار بالبنية الأساسية للنظام، أي الأجهزة الأمنية والعسكرية ومؤسسات الدولة وأجهزتها السياسية والاقتصادية، وحاولوا تحقيق هدفهم بالأسلوب المفضّل الذي تستعمله الولايات المتحدة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي: الانقلاب العسكري. دبروا محاولة في النصف الأول من شهر آب، ولكنها فشلت، ويبدو أنهم كرروا المحاولة مرة أو مرتين في الشهور الأربعة اللاحقة. خلال تلك الفترة حركوا أيضاً أدوات الضغط الخارجية: الحصار السياسي والعقوبات الاقتصادية، لإضعاف ترابط مكوّنات النظام وتسهيل اختراق بعضها، ويبدو أنهم حاولوا دفع بعض الطبقات الوسطى في النظام إلى التخلي عن القيادة العليا، ولكن تلك المحاولات لم تأت بالنتائج التي رَجَوها. لقد اتضح أن النظام السوري أمنع على الاختراق من نظيره العراقي الذي اخترقوه بالكامل عشية حربهم على العراق، مما تسبب في عزل صدام حسين عن نظامه العسكري والأمني وانهياره السريع.
“المرحلة الثالثة” بدأت من أوائل العام الحالي (2012) واستمرت إلى نهاية الولاية الأولى للرئيس الأميركي، قبل أسابيع قليلة.
خلال المرحلة الثانية (النصف الثاني من عام 2011) حصل أمر أقلق الأميركيين، وهو ما كانوا يخشونه أصلاً، فدفعهم إلى الدخول في المرحلة الجديدة: تطورت الثورة وعجز النظام عن قمعها وإنهائها، وكانت نقاط التظاهر تزداد باطّراد حتى قاربت الألف وغطت أرض سوريا كلها. ثم بدأ العمل العسكري؛ بدأ جنيناً صغيراً لا يثير الانتباه ولكنه نما بصورة انفجارية متسارعة، وخلال مدة قصيرة جداً انتشرت الكتائب في جميع أنحاء سوريا، فقد كان عددها خمساً في شهر تموز، وبعد خمسة أشهر تضاعفت مئة ضعف فصارت نصف ألف كتيبة.
في بداية العام الجديد اتخذت الإدارة الأميركية قرارها الحاسم: ”الاستنزاف”. قررت أن تستنزف كل الأطراف؛ النظام، والثورة، وإيران (ومعها حزب الله). معنى هذا أن تستمر الثورة ولكن بكلفة عالية، وفي سبيل ذلك منع الأميركيون وصول السلاح الثقيل إلى أيدي الثوار وفرضوا على الثورة حصاراً برياً وبحرياً صارماً، ولم يسمحوا لتجار السلاح بتوريد أي سلاح نوعي، ومنحوا النظام السوري الفرصة لضرب الثورة ضرباً موجعاً عندما حركوا المبادرات السياسية الدولية والعربية ورفعوا سقف العنف المباح ليشمل المدفعية الثقيلة والطيران، ولم يبقَ محظوراً على النظام إلا أسلحة الدمار الشامل (السلاح الكيماوي).
فيما انشغل الطرفان -الثورة والنظام- بالحرب تفرغ الأميركيون لترتيب البديل الذي يرجون، وهو مخلوق ”هجين” يتكون جسمه (أو أكثر الجسم) من النظام الحالي، والرأسُ والأطراف من معارضة تهيمن عليها الولايات المتحدة. خلال عشرة أشهر من العمل الدؤوب داخل سوريا وفي دول الجوار استطاع الأميركيون اختراق أجسام الثورة الثلاثة:
الجسم السياسي، وقد كان اختراقه هو الأسهل والأسرع والأوسع. والجسم العسكري، وكان اختراقه أصعب وأعقد وأقل فاعلية. والجسم الثوري داخل سوريا، وهو الأشد صعوبة بين الثلاثة وأقلها اختراقاً بفضل الله.
وأخيراً وصلوا إلى الوقت المناسب للدخول في”المرحلة الرابعة”، وهي التي نعيش الفصل الأول منها في هذه الأيام، والتي يتوقعون أن تكون هي المرحلة الأخيرة وأن تتكلل بنجاح خطتهم التي أنفقوا في الإعداد لها شهوراً طويلة وصرفوا عليها المال الكثير. ما هي الخطة؟
إنهم يريدون إجراء ”جراحة تجميلية” تقتصر نتائجُها على تغيير سطحي للنظام مع المحافظة على جوهره، وإنشاء نظام حكم جديد يضمنون تبعيته لهم واستمراره في خدمة مصالحهم. وأهم ما يحرصون عليه ثلاثة أشياء: إسقاط ”العصابة الحاكمة” بحيث يستبدلون بها قيادة جديدة مقبولة شعبياً وموالية للغرب، وبقاء الجيش العربي السوري تحت سيطرة الطائفة العلوية، وفرض دستور علماني على سوريا يجردها من هويتها الإسلامية.
* * *
هذا هو الموجز، وسوف أُتبعه -بإذن الله- بمقالتين تفصيليتين (قد يتأخر صدورهما قليلاً)، الأولى سأخصصها للحوادث الحاسمة التي فصلت بين المرحلتين الأولى والثانية في شهرَي تموز وآب 2011، والثانية لعرض العلاقة الأميركية بالثورة من بدايتها إلى اليوم، وعنوانها ”أميركا والثورة: التاريخ السري”.
ولكن ما الهدف من كتابة هذا كله؟ إن المعلومات المجردة لا تفيد ما لم ينتج عنها عمل، ومعرفتنا بخفايا وأسرار علاقة أميركا بثورتنا من شأنه أن يكشف لنا العدو الحقيقي، فنعيد ترتيب أعدائنا ونعرف أن العدو الأكبر لنا لم يكن روسيا وإنما هو الولايات المتحدة. إذا عرفنا ذلك فسوف نأخذ حذرنا ونراقب بعين اليقظة ما يُعَدّ لثورتنا وبلدنا من خطط ومؤامرات. وحتى عندما نُضطر إلى التعامل مع تلك الخطط فسوف نخرج منها بأقل الخسائر طالما كان الحذر هو منهجَنا، أما لو تخلّينا عنه فإن خسارتنا كاملة محقّقة لا قدّر الله.
اللهمّ رُدّ كيد الكائدين في نحورهم وأشغلهم عنا بأنفسهم، وانصرنا عليهم في ميادين السياسة كما نصرتنا على عملائهم ووكلائهم وصنائعهم في ميادين الجهاد.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة