درس في ساعة.!
درس في ساعة يعدل تعليم سنة: منذ أكثر من أربعين سنة جمعني طريق السفر من حلب إلى دمشق بطالب علم، أكبر منّي بسبع سنوات فيما أقدّر..
كنت أسمع به من قبل وأحبّه، لما أسمع عن تقواه وسمته الصالح دون أن أراه..
وكان طريق السفر بالباصات الشعبيّة طويلاً مملاًّ.. وكنت أرغب بالنوم فيه لأمضّي الوقت، ولكنّ هذا الصاحب الكريم لم يدع لي فرصةً للنوم لحظة، فمن حديث إلى حديث، ومن سؤال وتعارف، إلى توجيه ونصح، وإزجاء تجارِب في ثوب المدح..
كان حديث الرجل عذباً فهكاً، يدخل القلب بلا استئذان..
فأقبلت عليه باهتمام، وأشحت عمّا عزمت عليه في سرّي من مجاملة، لا أرى وراءها إلاّ تمضية وقت السفر المملّ..
كان نصح الرجل وتوجيهه يقطر أدباً وتواضعاً، قد اكتسبهما من صحبة أكابر المشايخ الذين تتلمذ عليهم، لا كبعض الناس الذين يقدّمون النصح فيما يزعمون، وهو متسربل بثياب الكبر والتعالي على الناس، فيكون من نتن الكبر ما يصدّ عن قبول النصح، ولو كان حقّاً لا غبار عليه..
والقلوب تجسّ على القلوب، والنفوس ولو كانت عليلة، تشمّ أمراض النفوس، فتقبل عليها أو تدبر.. ورحم الله امرءاً حاسب نفسه قبل أن يلقي للناس نصحه..
وكان ممّا سمعت من نصح هذا الرجل الحكيم وتوجيهه، نقلاً عن بعض مشايخه، ثلاث نصائح لا تزال في نفسي ماثلة، وأرجو من الله أن أقوى دائماً على العمل بها:
ـ المؤمن الربّانيّ يلتمس ما يحبّ الربّ سبحانه، في كلّ شأن من شئونه.. وهل يكون ربّانيّاً بغير ذلك.؟! وهذا يعني أنّه يسعى دائماً للتجرّد عن حظوظ نفسه.. فاحذر هوى النفس، فإنّه يصمّ عن الحقّ ويعمي..
ـ كيف يعرف المؤمن أنّ الله معه.؟! عندما يكون بالرحمة والشفقة مع الضعفاء والمساكين من عباد الله، فإنّ الله معه بالتأييد والتوفيق، لأنّ الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله..
ألم يقل الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما تُنصَرونَ وتُرزَقُونَ بضُعفائكم»، ويقول في الحديث المسلسل بالأوّليّة عند علمائنا المحدّثين : «الراحمُون يَرحمُهُم الرحمنُ، ارحمُوا مَن في الأرض، يَرحَمكُم من في السماء».
فإذا ضاقت عليك أسباب الرزق فالتمسها بخدمة الضعفاء والمساكين، تجد الله تعالى ييسّر لك أسباب الرزق من حيث لا تحتسب، وأسرع ممّا تتوقّع وتتصوّر..
والله كريم يحبّ من عباده الكرماء، ويجعل منهم أبواب الرزق وأسبابه للفقراء..
وتأسيساً على هذه النصيحة فإنّ أرزاق الفقراء والضعفاء والمساكين مباركة نافعة بإذن الله، ولا بركة فيما غلا ثمنه، ولم يكن للفقراء فيه حظّ أو نصيب..
ـ لا يزال الصالحون يوصون ويتواصون : «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» ولا يعني ذلك ما يفهمه بعض الناس من السلبيّة وترك النصح، وإنّما المقصود أن يبتعد الإنسان عن الحديث عن عيوب الناس بنشرها وتعدادها، ممّا يهوّنها في نظر السامعين، ولو لم يذكر فاعلها، فلو ذكر فاعلها لكان الأمر أسوأ وأشنع.. ووقع في كبيرة من كبائر الإثم..
سلام عليك أيّها الناصح حيث كنت، فلا أزال أنتفع بكلماتك ونصائحك..
ويا أيّها الخطباء والوعّاظ! قليل من النصح مع التواضع، والقول الليّن مع العمل، خير من كثرة الكلام من قلوب مليئة بحبّ الدنيا وحظوظ النفس الأمّارة بالسوء..
ربّ موعظة عابرة خير وأنفع من محاضرات طويلة..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن