أخِلاّء الجِنان
هي جدول متدفق من المشاعر الحانية، والأحاسيس الرقيقة الصادقة. هي بلسم الحياة، وإشراقة نفس، وابتسامة شفاه. هي شجرة مثمرة، أغصانها متشابكة، انبثقت من دوحة واحدة، نباتها الصدق والإخلاص، وماؤها التواصي بالحق، ونسيمها حسن الخلق.
هي نعمة من الله لا تُشترى بالمال، عطّرها الإيمان وتقوى الرحمن، يُنعم الله بها على عباده المؤمنين الأزكياء الأنقياء الأتقياء.
إنها الأخوّة في الله، أوثق عُرى الإيمان وأقوى من رابطة النّسَب والمال والجاه والحَسَب. هي أخوة لا تطيب الحياة إلا بها حيث تسمو النفوس وتطمئن القلوب فلا حقد ولا حسد، ولا بغض ولا فتنة ولا ضغينة. الأخوة في الله طوق النجاة وكنز الحياة. وهي لا تُبنى إلا على أواصر العقيدة والإيمان والحب في الله. عقدها الله بين المؤمنين وباركها فقال جل جلاله: (إنما المؤمنون إخوة)، وهي نعمة امتَنّ الله بها على المسلمين فـأّلف بها قلوبَهم؛ يقول سبحانه: (واذكروا نعمةَ اللهِ عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً).
وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن إيماننا لا يكتمل إلا بحبّنا للإخوان ما نحبّ لأنفسنا؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه» متفق عليه، كما جعل -عليه الصلاة والسلام- محبة المؤمنين بعضَهم بعضاً شرطاً أساسياً للإيمان ودخول الجنة؛ فيقول: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا...» رواه مسلم في صحيحه، فيصبح المجتمع المؤمن كالجسد الواحد؛ قال صلى الله عليه وسلّم: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمّى» رواه مسلم.
الأخوّة في الله هي التراحم والتعاون والإيثار، هي تنفيس الكروب وتفريج الهموم وستر العيوب، هي عدم الغش والظلم والأذى بالقول أو الفعل، هي منع المسلم أن يخذل أخاه المسلم أو أن يقصّرَ في مدّ يد العون إليه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من نفّس عن مؤمن كُربةً من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» رواه مسلم.
ولم توجد أخوّة في التاريخ أصدق وأنقى وأطهر من أخوّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين آخى بين المهاجرين والأنصار؛ فكم تقاسموا الأموال والبيوت! وكم آثروا على أنفسهم رغم الخصاصة!
إن الحب في الله لا تدنّسه المعاصي ولا تلوّثه المصالح والأنانية البغيضة؛ فالأخ يقف إلى جانب أخيه في أفراحه وأتراحه، آلامه وآماله، ويحفظه في حضوره وغيابه. فالإخوان تَسْلية وتَسْرِيَة قربهم سعادة ونجاة وبعدهم رحمة ودعاء.
وأعجز الناس مَن عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه مَن ضيع مَن ظفر به منهم؛ يقول لقمان: يا بُنيَّ ليكن أول شيء تكسبه بعد الإيمان بالله أخاً صادقاً، فإنما مثله كمثل شجرة: إن جلستَ في ظلها أظلّتْك، وإن أخذتَ منها أطعمتْكَ، وإن لم تنفعك لم تضرك.
قيل لابن السمَّاك: أي الإخوان أحق ببقاء المودة؟ قال: الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يَمَلُّكَ على القُرب، ولا ينساك على البُعد.
وكان الحسن البصري يقول: تواصلوا مع أصحابكم، فالصاحب الوافي مصباح مضيء، قد لا تدرِكُ نوره إلا إذا أظلمت بك الحياة.
وأوصى بعض الصالحين ابنه حين الوفاة فقال: يا بني! إذا أردت صحبة إنسان فاصْحَبْ مَنْ إذا خدمك صانك، وإذا صَحِبْتَه زانك، واصْحَبْ مَن إذا مددت يدك للخير مدها، وإذا رأى منك حسنة عدها، وإن رأى سيئة سدّها...
إن صحبة أهل الصلاح هي دواء وتكريس للخير والفضيلة، وصحبة أهل الشر داء وتكريس للشر والرذيلة، يقول سبحانه: (ويوم يَعَضّ الظالمُ على يديه يقول يا ليتني اتّخذتُ مع الرسول سبيلاً يا وَيْلتَى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً...) الفرقان، ولذلك عَظُمَتْ منزلةُ الصديق عند أهل النار فيقولون (فما لَنا من شافعين ولا صديق حميم) الشعراء.
وكل جليس يتأثر بجليسه؛ فإما يقوده إلى الجنة وإما يهوي به إلى النـار.
وحين تُبنَى الأخوّة في الله على أساس العقيدة فإنها تؤتي ثمارها الطيبة في الدنيا والآخرة، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «وَجَبتْ محبتي للمتحابين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ والمتجالسين فيَّ» رواه أحمد.
ويكفي المتحابين في الله تشريفاً وتكريماً أن يظلَّهمُ الله في ظل عرشه؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أُظلهم في ظلي يوم لا ظلَّ إلا ظلي»... وفي رواية للتِّرمذيّ: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيّون والشهداء» قال عنه الترميذي حديثٌ حسنٌ صحيح. فَلْيَنعَموا على منابرهم في ظل عرش الله!
إنّ كل محبة في غير الله تنقلب عداوة يوم القيامة إلا القلوب المؤمنة المتحابّة في الله المتمسكة بحبل الله فإن موعدها الجنة؛ يقول تعالى: (الأخّلاء يؤمئذٍ بعضُهم لبعضٍ عدوٌّ إلا المتقين. يا عبادِ لاخوفٌ عليكمُ اليوم ولا أنتم تحزنون...) الزخرف.
ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة