باحث أكاديمي | فلسطين
يتيم بعد الثلاثين
في العاشر من تشرين الثاني عام ٢٠٠٩ سألني فجأة رفيقي في السجن عن القرابة التي تجمعني بـ (عرابي خليل طه).. لم يكن هذا الرفيق يعرفني قبل أن تجمعنا غرفة السجن لدى جهاز المخابرات العامة التابع للسلطة الفلسطينية، وقد كان السؤال غريباً في كل الأحوال؛ فإن كان يعرف أن هذا اسم والدي - رحمه الله - فلا معنى للسؤال، وإن لم يكن يعرف، فمن أين جاء باسمه هكذا فجأة؟!
سألته: «هذا أبي، لِمَ تسأل؟!»، فقال: «أنت تقرأ الجريدة حرفاً حرفاً، ألم تشاهد نعي أبيك قبل عشرين عاماً؟!»، أخذت الجريدة منه بانفعال، ونظرت في الزاوية الثابتة التي تنشرها صحيفة القدس يومياً تحت عنوان «القدس قبل عشرين عامـاً»، ونظرت طويلاً في صورة والدي الذي توفي قبل عشرين عاماً بالضبط من هذا التاريخ.
في تلك اللحظة، وقبل أن أكمل العام الثلاثين من عمري، امتلكت وعياً مفاجئاً بعامل أساسي ساهم كثيراً في صياغة شخصيتي، وكأني أدركت أن هذا الحزن المخزون في داخلي يرجع أكثره إلى يتمي المبكر، حينما توفي والدي وعمري تسع سنوات وأنا أكبر إخوتي، وقد صمتُّ طويلاً يومها، ولم أذرف دمعة واحدة على أبي، وكأني وبلا إرادة مني قد بدأت بجمع الحزن، حتى اختلطتُ به، وما عدت أعرف نفسي دونه!
لماذا تحصّل لدي هذا الوعي باليتم في هذه اللحظة بالذات؟! بدأتُ بالنظر من يتمي المبكر لرؤية ما مضى من حياتي، واستنطاق دواخلي، والكشف عن هذا المزيج المعقد الذي تتشكل منه شخصيتي، لأنني في هذه اللحظة بالذات شعرتُ أنني بحاجةٍ إلى أبي فعلاً، وفي هذه اللحظة امتلكت وعياً بأن أحداً لم يحاول مجرد محاولة أن يملأ شيئاً من الفراغ المعنوي والعاطفي الذي خلفته وفاة والدي، وإن وجدتُ - بفضل الله - من يملأ الفراغ المادي، لكني ما وجدت من يداري شعوري بالحرمان من حضور الأب.
والدتي، حفظها الله، التي علمتني القراءة والكتابة والوضوء والصلاة وحفَّظتني شيئاً من القرآن قبل دخول المدرسة، والتي فُجِعَتْ بزوجها الشاب وهي في ريعان صباها، ثم صبرت على تربية أطفالها الصغار –الذين تتراوح أعمارهم ما بين السنة والتسع سنوات، والذين قد ابتلى الله ثلاثة منهم بالمرض والإعاقة- ثم فُجِعت بابنها البكر الذي اعتقل أول مرة وهو طالب متفوق في الثانوية العامة، ثم احتملت آلام اعتقالاته المتتالية، وما ذلك إلا شيء يسير من قصة الألم الكبير الممتد، وزوجتي التي صَبَرَتْ على اعتقالي حين خطبتُها، ثم صبرت حينما تزوجتها وعشنا فترة في شقة سرية، ثم صبرت حينما طاردني الاحتلال بعد زواجنا بخمسة شهور، وصبرت حين اعتقالي بعد ذلك لدى الاحتلال، ثم صبرت حين اعتقالي لدى السلطة، ولم تعش معي إلا بضعة شهور.. هما فقط، أي أمي وزوجتي، وحدهما من عانى السعي إلي، إلى رؤيتي في السجن وإلى طلب حريتي بطَرْق كل باب أمكنهما الوصول إليه، تحتملان في سبيل ذلك الوجع والخذلان والإهانة، وما طرْدُهما وسبهما يوم محكمتي التي حُكمت فيها بثلاث سنوات غير قابلات للنقض والاستئناف ومن جلسة واحدة وبلا حضور محامٍ، ما ذلك إلا صورة دالة على محنة عميقة لامرأتين عظيمتين وشاب مقهور في سجنه لا يستطيع دفع الأذى عنهما، ولا الاستغناء عن تعبهما برَجُل من أهله، ووقتها فقط ولأول مرة ومنذ عشرين عاماً قال: «لو كان أبي حياً لكفاهما هذا العناء على الأقل!».
في هذا الاعتقال، ولما كنت من أوائل المعتقلين السياسيين المدنيين الذين قُدموا لمحاكمات عسكرية من بعد ما عرف بالانقسام الفلسطيني، إن لم أكن أولهم، قالت لي والدتي داخل قاعة المحكمة: «هذه الطريق أنت قد اخترتها وحدك، فعليك أن تكون على قدر اختيارك»، وهي مقولة لا تختلف كثيراً عما قالته لي حينما اقتادني من بيتي جنود العدو أول مرة إلى الأسر، إذ قالت: «متخفش يمّا، هذول بخوّفوش».
يمكن القول أن والدي الحاضرَ بغيابه، وأمي بحضورها المجبول بالحزن والرضا، والطريق التي اخترتها، وما فيها من سجن وعنت، وبداياتها الحالمة، وبعض إخواني، وزوجتي من بعد ذلك، هي العناصر الأكثر أهمية في حياتي.
تعرفت إلى هذه الطريق بعد وفاة والدي، رحمه الله، مباشرة. كنتُ الأول على صفي، وتعرفت إلى المسجد من احتفال لتكريم المتفوقين، ومنذ ذلك التاريخ تعلقت بالمسجد، وفي مسجد قريتنا -الذي كان جدي لأمي مؤذنه -قرأت مبكراً أكثر ما في مكتبته الصغيرة، ومنها عرفت أكثر أدبيات الإخوان المسلمين، وإلى هذا المسجد كنت أسلك طريقاً موحشاً، وشيء من الخوف الطفولي يدب في صدري وأنا في التاسعة، كي أصلّي فيه الفجر ثم أعود، والمسجد ملتصق بمقبرة، وهو عُمَرِيٌّ قديم، ومنذ ذلك الوقت تصيبني رجفة كلما سمعت تلاوة القرآن بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد فجراً، أو بصوت الشيخ علي جابر ظهراً وعصراً، فقد كان جدي يكثر من بث تلاواتهما من مكبرات المسجد قبل أن يؤذن، أما الشيخ محمد صديق المنشاوي فله قصة أخرى بعد أن اكتشفت أثره في نفسي في سجن مجدو عام ٢٠٠١.
في هذا المسجد شُغِفْتُ بالقراءة التي أُنفق عليها اليوم أكثر مالي، فقد حببتني إليها ظروف كثيرة؛ منها أن والدي، رحمه الله، وقد كان شديد الفقر، قد وعدني بأن يشتري لي رواية نجيب محفوظ «بين القصرين»، بعد أن شاهدناها مسلسلاً في التلفزيون، ولم أنس هذا الوعد، فاشتريتها بنفسي بعد وفاته، إلا أن مكتبة مسجدنا العمري الصغيرة قد ملأت علي طفولتي، حتى اشتريت وأنا في العاشرة «صفوة التفاسير» للصابوني، ثم «مختصر تفسير ابن كثير» له أيضاً، والسبب في ذلك أننا كنا نجلس في رمضان بعد الفجر لتلاوة جزء من القرآن، والشيخ يفسر لنا من أحد هذين الكتابين، فاشتريتهما وصرت كل ليلة أحضّر جزء التفسير، وفي الفجر، وفي فعل طفولي بريء، أسابق الشيخ في درسه، حتى تلبّسني المفسر، وكتبت وأنا في هذا السن تفسيراً لجزء عمّ!
وفي مرضٍ أقعدني في البيت وأنا في العاشرة من عمري، كان جدي لأمي يأتي لي من مكتبة المسجد بقصة صغيرة أقرؤها، فطلبت منه أن يأتي لي بكتب أخرى بدت له أكبر من سني بكثير، واللطيف أنه - ورغم هذه البداية الجادّة - فإن مجلات «سمير»، و«ميكي»، و«مجموعة الشياطين الـ١٣»، وغيرها قد رافقتني فترة طويلة من عمري، وكأني كنت أعوض بها شيئاً من طفولتي.
لستُ أدري، ولا أزال عاجزاً عن تفسير الأسباب التي جعلتني أمضي على هذه الطريق، بعدما تخلف وتغير كثير ممن عرفتهم من أبناء جيلي أو ممن يكبرونني بقليل، رغم ظروفي الأسرية القاسية ووعيي المبكر بالأثمان التي سأدفعها في الآتي من أيامي، ولا الأسباب التي جعلتني نشيطًا قوي المبادرة، ولا الأسباب التي جعلتني بعد اعتقالي الأول أقل مبادرة وأكثر ميلاً للانعزال وسريع الشعور بالتشبع والامتلاء من أي تجربة جديدة أخوضها، وهي الحالة التي تعززت بعد الاعتقال الثاني.
بدأت بالخطابة وأنا في التاسعة في المخيمات الصيفية، وأسستُ دروسًا مسجدية وكتلة إسلامية في المدرسة وأنا في الثانية عشرة من عمري، لكني حينما خرجت من السجن إلى الجامعة مباشرة، ووجدت نفسي قائداً طلابياً دون إرادة مني، اكتشفت التغير العميق الذي أصابني، فرغم اعتلائي المستمر للمنابر والمنصات في الجامعة، كنت أميل للعمل في الظل، مثل نشاط على شبكة الإنترنت لتأسيس بعض المواقع الإسلامية، وأذكر أنني في تجاربي الأولى على شبكة الإنترنت قمت بنسخ كتاب سيد قطب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» لنشره على الإنترنت في وقت كانت فيه الشبكة فقيرة بالمحتوى العربي، وللأسف لم أعد أعرف أحدًا من زملاء هذه التجربة الأولى على الإنترنت.
في الاعتقال الثاني تشبعت سريعاً من كل المواقع القيادية في السجن، ثم قررت الاستنكاف عن العمل داخل السجن والتفرغ للقراءة، وهي الحالة التي لازمتني في أكثر اعتقالاتي التالية، ثم وجدت آثارها في حياتي عموماً، فما إن أدخل تجربة جديدة -حتى لو كنت متشوفاً لها -حتى أتشبع بها سريعاً ثم أملّها وأعزف عنها، وأجدها على المستوى الشعوري خارج نفسي تماماً، ولا أشتغل بها إلا قياماً بواجب ما، بما في ذلك الكتابة، والظهور الإعلامي، والدراسة.
بالنسبة للدراسة؛ أنهيت امتحان الثانوية العامة في السجن، ثم بقيت في البكالوريوس أحد عشر عاماً كان القسط الأكبر منها في السجن! وحين قررت استكمال الدراسة للماجستير اعتقلتني السلطة الفلسطينية ثلاث سنوات، وبعد أن أتيح لي استكمال الماجستير ألحت علي، كما العادة، أسئلة الجدوى والأهمية، وظهر لي أن ما أنا منشغل به قد صار خارج نفسي.
حسناً، على هذه الطريق عرفت أيضاً العديد ممن قضوا شهداء، وممن لا يتيح المقام لذكرهم جميعاً، بيد أن أكثرهم أثراً فيّ كان الشهيد «حسنين رمانة» رحمه الله، وقد عرفته حينما كنت في الحادية عشرة من عمري، ومنذ أن عرفته وأنا أقول: «ستكون خاتمة هذا الرجل الشهادة»، وقد كان ذلك، فما عرفته إلا ساعياً إليها، وما وجدته إلا مهموماً بها، ولا أزال إلى اليوم أذكر بيتين من الشعر ألّفهما يقول فيهما:
قد سلّني الإيمان سيفاً * وفي يد المختار غَمْده
والناس تفرح بالخَنا * وفرحتي بالعيش عنده
وأخيراً، فإنني وإذ كتبت ما كتبت، فإنني ما فعلت ذلك إلا بعد تمنع وتهرب ممن طلب مني الكتابة، ذلك لأني لا أجد في حياتي ما يستحق التسجيل، إلا أن الطلب كان ممن لا يسعني رده، ثم ظهر لي أن الذكريات واسعة لا تحيط بها هذه المقالة، ومنها أن الله منّ علي بإخوة بالغوا في إحسان ظنهم، وأفاضوا عليّ من سخاء نفوسهم، ولولاهم -بعد الله تعالى - لما قُضيت لي حاجة ربما، ولا درى بي أحد، فلهؤلاء خالص دعائي.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة