باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
القرم.. بين المجد وتتابع النكبات -2-
تكلمنا في الجزء الأول من هذا المقال عن لمحات عظيمة من تاريخ منطقة القرم وما قام به حكامها من دفاع عن المسلمين ومكابدة الروس وصد تغولهم، حتى أضحت خانية القرم القوة الوحيدة التي استطاعت أن تُوقِف روسيا في القرن السادس عشر بعدما بدأت تتسع وتقوى في وجه الخانيات التركية المسلمة، بل وفرضت سيطرتها على عاصمة الروس موسكو ردحًا غير قليلٍ من الزمن، ومع الحماية التي تتمتع بها القرم من قبل الدولة العثمانية، واستقلال خانية القرم الذاتي نجحت في تشكيل خطٍ دفاعي متقدم امتد لقرون عدة.
نتيجة لتضافر عوامل متعددة منها الضعف الذي اعترى الدولة العثمانية وما تابعه من تراجع في قوتها وتداع الجبهات البعيدة التي كانت تسيطر عليها مع بدايات القرن الثامن عشر، تزامنت تلك الفترة مع خوض الجيوش الروسية حروبًا طاحنة في مع خانية القرم، واستطاعت روسيا من خلال الضغوط السياسية والعسكرية بمؤارزة من الدول الأروروبية إجبار الدولة العثمانية على إلغاء الحماية التي تتولاها هذه الأخيرة على القرم وذلك في عام 1774م، وهو العام الذي دخلت فيه القوات الروسية لشبه الجزيرة، لم يقف المسلمون مكتوفي الأيدي بل قاموا بمقاومة الاحتلال، وإزاء هذه المقاومة لم تستطع روسيا فرض سيطرتها بشكل كامل على القرم إلا بعد تسع سنوات من المعارك وإثارة الفوضى حتى قضت نهائيًا على حكم خانات القرم عام 1783 م.
منذ هذا التاريخ المشؤوم بدأ أهل القرم صفحة جديدة من المعاناة تحت الاحتلال الروسي، واضطر مسملو هذه البلاد الهجرة من مناطقهم وترك أرض الأجداد إلى أراضي الدولة العثمانية نتيجة الضغوط الدينية والثقافية والإنسانية التي كانوا يتعرضون لها من قبل المحتل الصليبي، كما قام الروس بسرقة أراضي المسلمين من خلال قرارات المصادرة الجائرة التي تسلب الأرض من أصحابها الحقيقيين وتعطيها للروس إمعانًا في حصار المسلمين ونزع مصدر رزقهم الذي يعتاشون من خلاله.
ونتيجة لسرية الكثير من هذه الهجرات خوفًا من الاعتقال أو القتل تعرَّض جزءٌ كبير من المهاجرين للغرق في البحر الأسود لاستخدامهم وسائل نقلٍ بدائية، كما فقَد جزءٌ آخر حياته بسبب الأمراض والأوبئة نتيجة ظروف المعيشة السيئة.
ليس هناك أرقامٌ واضحة حول أعداد الضحليا من المسلمين في تلك الفترة وكم قتل منهم في القرم بعيد الاحتلال او في السنوات وتشير بعض المصادر إلى وصول أعداد المهاجرين كرهًا ما يفوق 600 ألف تتري مسلم شردوا عبر حملة ممنهجة من الإبعاد عن أرضهم باتجاه المناطق المقفرة في روسيا (سيبيريا، أوزبكستان اليوم...) خلال حكم روسيا القيصرية وأثناء الحقبة السوفييتية.
وبعد الهجرات التي تمت في 1860 - 1861م، واجه التتر اللذين أصروا على البقاء في أراضيهم وحشية فائقة من الروس وتعرضوا لمذابح سادية فقد كانت تحرق القرى ويقتل كل سكانها إن ساعدوا أحد المجاهدين أو أمنوا الطعام لهم كما كانت الثورات في وجه الروس تجد عنفًا كبيرًا وصل لقتل مئات آلاف العزل في المدن والقرى أو في أقبية السجون وغرف التحقيق..
وعندما لم تستطع روسيا جذب مواطنيها للعيش في القرم لإضعاف الوجود الإسلامي، قامت بجلب عدد كبير من مسيحيي اليونان وإيطاليا وبلغاريا لإحداث خلل ديموغرافي في القرم وجعل المسلمين أقلية ضئيلة، فقَد تترُ القرم تفوُّقهم العددي الديموجرافي وأصبحوا أقلية في بلاد تحمل اسمهم وهويتهم.
مرَّ على التتر الذين بقُوا في القرم قرنٌ، أُطلِق عليه "القرن الأسود"؛ حيث تدهورت جميع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية لمسلمي القرم تحت الحكم الروسي، وتدهور بشكلٍ كبير نظامُ المعارف الإسلامية الذي يتولَّى مهمة تعليم الأجيال الجديدة، كما قام الروس بحملات طمس للمعالم الإسلامية فهدمت مئات المساجد التاريخية والقصور التترية كما حولوا الكثير منها لمنشآت عسكرية روسية ساعين لطمس الهوية الإسلامية لهذه البلاد، ولم يقف حقدهم عند معالم الحضارة وصروحها بل لاحقوا الكتب وأتلف عدد لا يحصى من نتاجات علماء الإسلام في القرم من كل مجالات العلوم الإسلامية، في محاولة دنيئة لفصل المسلمين عن تاريخهم وحضارتهم.
استغل تتر القرم الأحداث التي تصاعدت في روسيا مع اندلاع اندلاع الثورة البولشفية في موسكو عام 1917م، معلنين عن ولادة جمهورية القرم برئاسة نعمان حيجي خان، لكن سرعان ما أُجهضت تلك الحكومة وأُعدم وزراؤها وألقي بجثة خان في البحر الأسود. وبعد اعتراض التتار على إنشاء كيان يهودي سنة 1928م بالقرم، تم إعدام ما يقارب 3500 إمام وخطيب ومثقف مسلم بمن فيهم وزراء الحكومة المحلية ورئيس جمهورية القرم حينها وتهجير زهاء 40 ألف مسلم لسيبيريا، وخلال الحكم السوفياتي الذي رفع راية اجتثاث الدين، فتح فصل دموي جديد مع مسلمي القرم، ولعل الأرقام تعطي صورة عن الحال التي أصبح عليها المسلمون في القرم فقد انخفض عدد تتر القرم عام 1883م من 9 ملايين نسمة إلى 900 ألف نسمة تقريباً عام 1941م، ومنذ ذلك الوقت والقرم تعاني فصولًا دامية من القهر والإبعاد والتشريد.
ومع عودة كثير من سكان القرم إلى ديارهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلا أن نسبة تتر القرم اليوم لا تتجاوز 12% من مجمل سكان شبه الجزيرة.
تاريخنا الحديث المختنق برائحة دمائنا والذي يسجل منذ أكثر من مئة عام جراحنا ونزف أمتنا القاني، كانت الأندلس ثم القرم واليوم فلسطين وسوريا والعراق وبلاد أخرى يقتل فيها المسلمون ويبادون حتى آخر فرد منهم والغرب المتحضر قلق على أقليات اليوم متناسيًا مذبحة الأكثرية الساحقة التي تقتل على مذبح طغمة الطائفية والطائفة..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة