الأدلة الشرعية على وجوب دعم الانتفاضة الفلسطينية
ليس أحد أضل رأيا ولا أقل وعيا ولا أذل سعيًا ممن ينتظر الفتاوى الشرعية فيما هو – أصلا- معلوم من الدين بالضرورة القطعية.
ولا أشد خطرًا على الأمة من أن تصبح دنياها نهبًا للأعداء ودينها نهبًا للأهواء وشطحات من ليسوا أهلا للإفتاء ممن يسارعون في أهواء الرؤساء من أشباه العلماء ممن يختلون الدنيا بالدين فإن شاء الرؤساء تجريم العمليات الجهادية في أرض فلسطين بتهمة الإرهاب والتطرف صدرت الفتاوى منهم بتحريمها وإن شاء الرؤساء تأييد هذه العمليات بدعوى الدفاع عن الحقوق القومية المشروعة صدرت الفتاوى بوجوبها وتدعيمها!
ثم لا يعجز هؤلاء العابثون بدينهم ودنيانا معهم عن إقامة الحجج والبينات على صدق دعواهم وصحة فتاواهم في كلا الحالين المتناقضين تحريما وإيجابًا بالأدلة الشرعية والقواعد الفقهية؟!
ألا فليعلموا أن الحق أبلج عليه من الله نور وإن أخوف ما كان يخافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته الأئمة المضلون الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
لقد أجمع المسلمون – قبل أن يولد هؤلاء الحيارى المتهوكون – على أن الجهاد قسمان: جهاد دفع وجهاد طلب، وأنه لا يشترط في جهاد الدفع ما يشترط في الطلب بل إذا هجم العدو على أرض الإسلام وجب على كل مسلم فيها فرض عين دفعه ومقاومته قال ابن عطية: (الذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد فرض على الكفاية إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض على الأعيان رجلاً كان أو امرأة أن يجاهد العدو بما استطاع ولا يستأذن الولد أباه ولا المدين غريمه ولا المرأة زوجها ولا يشترط له أي شرط مطلقاً) إذ المقصود دفع العدو فبأي وجه تحقق فثم شرع الله كما قال شيخ الإسلام (الجهاد منه ما هو باليد ومنه ما هو بالقلب واللسان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكن) الفتاوى المصرية 4 /508.
وقال في شأن جهاد الدفع: (أما قتال الدفع وهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان).
ولا شك بأن الجهاد القائم في أرض فلسطين هو من هذا النوع فيجب على أهلها أن يدافعوا العدو بكل ما يستطيعون ويجب على كل مسلم مناصرتهم ولو بالمال أو الكلمة أو الرأي أو بأي دعم مادي أو معنوي قال شيخ الإسلام: (وإذا دخل العدو بلاد الإسلام وجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام بمنزلة البلد الواحد ويجب النفير إليها بلا إذن والد أو غريم) المصدر السابق 4 /509.
ولا ريب بان ما يقوم به المسلمون في أرض فلسطين اليوم هو من الجهاد في سبيل الله بل أعلى مقاماته وأشرفها إذ يجاهدون عدوا هو أكثر منهم عددا وأقوى عتادًا وكما قال العلامة عبد الرحمن بن حسن الحنبلي: (كل من قام بإزاء العدو وعاداه واجتهد في دفعه فقد جاهد ولابد والقائم به كلما قلت أعوانه وأنصاره صار أعظم لأجره كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع) الدرر السنية 7 /98.
فكل من استفرغ جهده وبذل وسعه وطاقته في قتال العدو فقد جاهد وهو مجاهد بل قال ابن حزم في قوله تعالى: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك}: (هذا خطاب موجه إلى كل مسلم فكل واحد مأمور بالجهاد وإن لم يكن معه أحد) المحلى7 /351.
وأهل كل بلد أولى بالدفاع عنها ثم الذين يلونهم وعلى أهل كل بلد ومن جاورها من المسئولية ما ليس على من بعد عنها كما قال الخطيب الشافعي: (الحال الثاني أن يدخلوا بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم ويكون الجهاد حينئذ فرض عين) الإقناع ص 510.
وللمسلم في أرض فلسطين أن يبذل نفسه في سبيل الله وإن تيقن هلاكه كما قال الإمام الشافعي: (لا أرى ضيقا على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسرًا أو يبادر الرجل وإن كان الأغلب أنه مقتول) الأم 4/ 178.
وليس هذا من إلقاء النفس في التهلكة المذكور في قوله تعالى:{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} إذ التهلكة في الآية ترك الجهاد وترك الإنفاق في سبيل الله كما فسر ذلك أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وعليه عامة المفسرين من السلف وأن من ترك الجهاد في سبيل الله بنفسه أو ماله فقد رمى نفسه بالتهلكة ولهذا قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني: (لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو).
وقال ابن خويز منداد المالكي: (وكذلك لو غلب على ظنه أنه يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضًا).
وقال القرطبي: (فإن كان قصده تجرئة المسلمين حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ولأن فيه منفعة للمسلمين وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله تعالى: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم}) انظر الجامع لأحكام القرآن 2 /346.
فإذا كان ذلك فيمن يحمل وحده على العدو في جهاد الطلب فمن باب أولى جهاد الدفع الذي هو فرض عين ولا شك بأن في انتفاضة الشعب الفلسطيني نكاية في العدو وإرهاباً له ورفعا لمعنويات المسلمين هناك مع ما لها من أثر كبير على المستوى السياسي ولولا انتفاضة الثمانينات لما فكرت إسرائيل بالجلوس على طاولة المفاوضات.
هذا ولا يشترط في جهاد الدفع أن تكون هناك راية للمسلمين بل كل مسلم يدافع العدو بحسب استطاعته وإمكانياته فإن كانت لهم راية وإلا لم يسقط الفرض عنهم وهذا معنى قول الفقهاء أنه فرض عين فهو كالصلاة لا تسقط بحال.
وكذلك لا يشترط أن لا يجاهد إلا الصالحون بل الجهاد حال الدفع واجب كل مسلم وإن كان فاسقًا بل ولا يشترط ذلك حتى في جهاد الطلب؛ ولهذا فالجهاد ماض مع كل أمير وإمام برًا كان أو فاجرًا فمن باب أولى جهاد الدفع.
وكذلك لا يؤثر في صحة الجهاد في أرض فلسطين أن يقاتل المسيحيون الفلسطينيون مع المسلمين هناك إذ أنهم جميعًا مظلومون مضطهدون فلهم أن يقاتلوا دفاعًا عن أرضهم وحرماتهم وكنائسهم وقد اشترط النبي صلى الله عليه وسلم على يهود المدينة أن يقاتلوا مع المسلمين إذ دهم المدينة عدو وقد اشترط شيخ الإسلام بن تيمية على قائد جيوش التتار أن يطلق أسرى اليهود والنصارى من أهل الشام وأبى أن يرجع إلا بهم لأن لهم ذمة الله ورسوله وقد استعان عمر رضي الله عنه بنصارى العرب في قتال الروم.
والمقصود أن قتال غير المسلمين بصف المسلمين دفاعًا عن أرضهم لا يؤثر في صحة الجهاد.
كما لا يشترط في كل جهاد أن يكون من أجل إعلاء كلمة الله فإن هذا وإن كان أعلى أنواع الجهاد وأشرفه إلا إن من الجهاد ما يكون دفاعًا عن النفس والمال والحرمة كما في جهاد الدفع كما في الحديث: (من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد) رواه أبو داود والترمذي وصححه قال الخطابي: (إذا سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا شهيدًا فقد دل ذلك على أن من دافع عن ماله أو عن أهله أو عن دينه فقتل كان مأجورا نائلاً منازل الشهداء) وقد قال سبحانه مبينًا أسباب مشروعية الجهاد: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} وقال أيضًا: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يُقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تَبرّوهم وتُقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين. إنّما ينهاكم الله عن الذين يُقاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم} فجعل سبحانه فتنة إخراج المسلمين من أرضهم كفتنة صدهم عن دينهم وجعل حكم من ظاهر على إخراجهم كحكم من أخرجهم.
كل ذلك يبين مشروعية القتال دفاعًا عن الوطن والأهل والمال والمحارم بل من قاتل في ذلك محتسبًا الأجر فهو في سبيل الله كما في قوله تعالى: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} هذا والنكاية في العدو مقصودة للشارع كما قال تعالى: {ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} وكذا إغاظته ومراغمته كما في أول الآية {ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار} ولا شك في أن الانتفاضة تغيظ العدو الصهيوني وتفت في عضده وتؤثر في كيانه تأثيرًا بالغًا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا.
هذا والشارع لم يحدد وسيلة بعينها في باب الجهاد بحيث لا يسوغ استخدام غيرها وليست وسائل الجهاد توقيفية بل هي اجتهادية فكل وسيلة تحقق النكاية بالعدو فهي مشروعة سواء كانت نكاية مادية أو معنوية فالعمليات الاستشهادية والمظاهرات والحرب الإعلامية كل ذلك يدخل في أبواب الجهاد وكما قال ابن القيم: (الجهاد فرض عين إما باللسان أو بالمال أو باليد فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع).
وقد أثبتت المظاهرات أنها من الوسائل السياسية والإعلامية المؤثرة على مستوى العالم كله وأصبحت تحدث صدى عالميًا كبيرًا وقد استقلت الهند عن إنجلترا بهذه الوسيلة – كما سقط أكثر الأنظمة الاستبدادية بهذه الوسيلة أيضاً كما حصل في إيران ورومانيا والفلبين ويوغوسلافيا وغيرها من دول العالم ولا يشك في جدواها وقوة أثرها إلا مكابر أو جاهل بواقع العالم المعاصر فإذا كان المقصود من جهاد الدفع هو إخراج العدو عن أرض الإسلام فبأي وسيلة تحقق هذا الإخراج فثم شرع الله فإن أمكن تحقيق الدفع بأقل الوسائل خسارة فذلك أولى وليست المظاهرة كلمة أجنبية دخيلة على اللسان العربي ولا وسيلة جديدة على الفقه السياسي الإسلامي بل هي مأخوذة من التظاهر وهو التناصر والتعاون كما قال تعالى: {ولم يظاهروا على إخراجكم} وقوله تعالى: {فإن تظاهرا عليه} فكل تناصر بين اثنين فأكثر على رأي أو موقف هو تظاهر ومظاهرة وقد عرفها أصحاب المعجم الوجيز بأنها: (إعلان رأي أو إظهار عاطفة في صورة جماعية) وإن لم يكن مسير طلحة والزبير وعائشة وآلاف المسلمين معهم من مكة إلى البصرة للمطالبة بالقصاص ممن قتل عثمان رضي الله عنه تظاهرة ومظاهرة لغة واصطلاحا فليس في هناك مظاهرة وقد تكررت مثل هذه الواقعة كثيراً في التاريخ السياسي الإسلامي وقد كان علماء الأزهر وشيوخ المذاهب الأربعة فيه يقودون المظاهرات الشعبية من الجامع الأزهر إلى قلاع المماليك ويحاصرونها ويأمرون الناس بإغلاق الأسواق والإضراب عن البيع والشراء حتى يرفع المماليك الظلم عن الشعب كما ذكر ذلك الجبرتي في تاريخه كما في حوادث سنة 1209 هـ كما استخدم علماء الأزهر هذه الوسيلة ضد الاستعمار الفرنسي ثم الإنجليزي بعد ذلك وانظر ما كتبه العلامة المحقق محمود شاكر حول هذه الأحداث في (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا 127-129).
والمقصود أن هذه الوسيلة ليست بدعة غربية يحرم على المسلمين استخدامها ولا يمنع من استخدام هذه الوسيلة ما قد يقع فيها من محظورات شرعية إذ يغتفر مثل ذلك دفاعا لأعظم المفسدتين وجلبا لأكبر المصلحتين كما لا يتعطل الجهاد مع الأمير الفاجر بدعوى فجوره أو لما قد يقع منه من محظورات شرعية لما في ترك الجهاد من مفاسد أكبر وتفويت مصالح أعظم وهذا باب من أدق أبواب الفقه وأعسره.
والحاصل أن من شكك في مشروعية جهاد المسلمين في أرض فلسطين أو حرم عليهم العمليات الاستشهادية أو الانتفاضة ضد عدوهم بدعوى أنهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة أو حرم عليهم المظاهرات والاعتصامات ونحو هذه الوسائل بدعوى أنها بدعة غربية وتشبه بالكفار أو بدعوى أنها تشوبها محظورات شرعية أو بدعوى أنه ليس لهم راية إسلامية أو أن قتالهم إنما هو في سبيل الوطن لا في سبيل الله ونحو هذه الشبهة الشيطانية فإنما هو مخذل آثم كما قال ابن حزم: (ولا إثم بعد الكفر أعظم من إثم من نهى عن جهاد الكفار وأمر بإسلام حريم المسلمين إليهم) المحلي 7 /300.
وكذلك يحرم تخذيل المسلمين عن مناصرتهم بما أمكنهم بدعوى أن هذه المناصرة لا تجدي شيئًا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمستضعفين من أهل مكة لما حال الصلح بينه وبين مناصرتهم بالقوة ولو لم يكن في المظاهرات التي خرجت في العالم الإسلامي إلا الدعم المعنوي للشعب الفلسطيني والضغط السياسي على الحكومات لدعم قضيته ماديا ومعنويا وتحريكها عالميا لكفى بذلك أثرا هذا ولو لم تأت الشريعة بما يدل على وجوب قتال العدو الصائل دفاعا عن الأرض والعرض والمقدسات والأنفس والأموال لكان فيما دلت عليه العقول السليمة والنفوس الشريفة ما يكفي دليلاً على ضرورة قتاله إذ من المعلوم بداهة عند كل أمة أنه لا شرف يعدل الموت دفاعًا عن الدين والوطن والحرم وأن الموت بعز خير من الحياة بذل وأن الشعوب لا تذوق طعم الحرية إلا بالتضحية وأن الأمم التي تنتظر مجيء المخلص لا تستحق شرف الحياة ولا يعرف التاريخ الإنساني أن أمة تحررت من عدوها دون فداء ودماء حتى غدت طرق الحرية مترعة بدماء الأحرار والشهداء وصار مجد كل أمة يقاس بقدر ما قدمت في سبيل تحررها ولولا الانتفاضة الفلسطينية لما فكرت إسرائيل بإرجاع شبر واحد من أرض فلسطين فضلا عن السماح بإقامة دولة مستقلة للفلسطينيين بعد أن كان كل ذلك من المحظورات في قاموس السياسة الإسرائيلية ولن تجد إسرائيل نصيرا لها كمثل من يدعو الفلسطينيين إلى ترك الجهاد والانتفاضة بدعوى عدم جدوى ذلك أمام القوة الإسرائيلية ألا وإن الشعب الفلسطيني لا يحتاج فتاوى تثبت شرعية أو عدم شرعية جهاده كما لم يأخذ الإذن من أحد ولم يستشر أحدًا في انتفاضته ولم يغرره أحد فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليناصره أو ليصمت.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة