تواضروس في القدس.. الزيارة وظلالها
لم تجد الكنيسة القبطية في معرض تبريرها لزيارة البابا تواضروس للأراضي الفلسطينية المحتلة، سوى القول إن موقفها لم يتغير من التطبيع، ومن قضية الزيارة، وإن ما جرى كان حالة خاصة لاعتبارات المشاركة في جنازة «أسقف» أوصى بذلك، لكن ذلك لم يقلل من أصداء الحدث، لاسيما أن موقف الكنيسة القبطية المصرية بقيادة البابا شنودة كان معروفا على هذا الصعيد، مع العلم أن بعض مريدي الكنيسة، كما ساويرس ما لبثوا يرددون مقولة عباس والهباش عن أن «الزيارة تضامن مع السجين وليست دعما للسجان»!!
في قراءة الحدث هناك بعدان، الأول يتعلق بقضية الزيارة ذاتها وسياقها السياسي، بينما يتعلق الثاني باستمرار الجدل حول قضية الزيارة بمجملها؛ في ظل وجود فريق فلسطيني، وقلة من العرب تدعو للسياحة إلى القدس، مع التذكير بأن زيارة تواضروس، قد سبقتها زيارات لعلماء مسلمين من بينهم علي جمعة والحبيب الجفري، مع دفاع معروف عما جرى، بعضه «شرعي».
في السياق السياسي المصري، يمكن القول إن موقف البابا شنودة لم يكن استثنائيا في السياق المصري، فرفض التطبيع مع العدو كان موقفا شعبيا قويا في الساحة المصرية، لكن الذي لا يقل أهمية عن ذلك هو أنه كان موقفا رسميا أيضا، وإن لم يكن معلنا، فالنظام كان ضد التطبيع، وهو الذي كان يضع العراقيل أمامه، وهذا مما يذكر لنظام مبارك رغم كل مصائبه، ما يعني أن موقف البابا شنودة كان جزءا من هذا السياق، بينما يبدو موقف تواضروس الجديد جزءا من الزمن الجديد، وحيث يحصل الكيان الصهيوني على نظام في القاهرة لم يسبق له مثيل من حيث العلاقة الحميمة معه، وبالطبع كنوع من رد الجميل للجهد الذي بذله نتنياهو في الترويج للانقلاب، وكوضع طبيعي يتعلق بانقلاب يحتاج لمزيد من الشرعية التي تدفعه للدفع من جيب قضايا الأمة الكبرى، تماما كما حصل في العشرية الأخيرة من حكم مبارك، عندما كان يمهد للتوريث، وإن لم يتقدم خطوات كبيرة على صعيد التطبيع، خلافا للتعاون الأمني والسياسي، بخاصة في الموقف من حكم حماس في قطاع غزة، مع التذكير بالفارق الهائل بين المرحلتين على هذا الصعيد أيضا، أعني مرحلة السيسي ومرحلة حسني مبارك.
اليوم يذهب تواضروس إلى القدس المحتلة، وبطائرة وحراسة إسرائيلية، وهو يدرك أن النظام يشجع ذلك، وما كان له أن يذهب لولا حصوله على ضوء أخضر من النظام، ما يعني أن علينا تحميل المسؤولية للأخير، وليس لتواضروس وحده، مع أنه كان بوسعه إلا يذهب من دون أن يضطره أحد لذلك.
نأتي للبعد الثاني المتعلق بالجدل حول فكرة الزيارة من أصلها، وهنا نعيد القول إننا إزاء قضية سياسية وليست فقهية، لمن يضعونها في السياق الشرعي التقليدي. والقضية السياسية، كما يعرف أهل العلم إنما تعالج ضمن نظرية درء المفاسد وجلب المصالح. وفي تقدير الرافضين أن مفاسد فتح الباب أمام زيارة المسلمين للقدس هي الأكبر.
والسؤال الذي يطرح نفسه ابتداءً هو: هل إن تشريع الاحتلال بالحصول على تأشيرته لدخول الأراضي المحتلة أمر يسير، بما ينطوي عليه من تطبيع وتحويل لمسار علاقة العرب والمسلمين من علاقة بأرض ومقدسات ينبغي تحريرها إلى علاقة سياحية؟!
أما البعد المالي المتعلق بدعم المقدسيين، كما يردد البعض؛ فيبدو واهيا هنا، ليس فقط لأن دعمهم يمكن أن يتم بغير الطرق السياحية عبر الدعم المباشر، بل أيضا لأن عوائد السياحة إنما تصب في جيب المحتل، لاسيما أن المجموعات السياحية لا تتوقف في القدس إلا لساعات ثم تذهب نحو الساحل الفلسطيني والمدن الأخرى المحتلة عام 48 وفنادقها ومنتجعاتها السياحية!! الأسوأ بالطبع هو الحديث عن حماية المدينة الذي لا يبدو مقنعا بحال، لأن المحتل يمنع الشبان الفلسطينيين من الوصول للمسجد أيام الجمع، أو في المناسبات التي يتعرض فيها لهجمات المتطرفين. وليس ثمة عاقل يعتقد أن زيارة القدس والأقصى (من سياح العرب والمسلمين) ستحول دون تهويدها.
وإذا صح ذلك، فمن سيمنع المحتلين من منعها؟! ونتذكر مثلا كيف أصبحت الزيارات بالغة الصعوبة إبان انتفاضة الأقصى بعد مشاركة شابين بريطانيين من أصول باكستانية في تنفيذ عملية عسكرية ضد الاحتلال. وحين زار الشيخ الجفري فلسطين، منع من دخول الخليل لزيارة الحرم الإبراهيمي.
في ذات السياق؛ لا يجب أن ننسى ما يمكن أن ينطوي عليه فتح الباب على مصراعيه للزيارة من منح المحتل فرص تجنيد العملاء وإحداث الاختراقات في المجتمعات العربية والإسلامية، هو الذي يعرف عنه التمرس في هذا المضمار. وهذا البعد تحديدا هو ما وقف خلف منع النظام المصري للتطبيع بعد كامب ديفيد.
مع ذلك لا بأس من مناقشة الأمر في بعد الشرعي ردا على الهباش والجفري وجمعة وسواهم، ومن ثم السؤال: أين التشابه بين واقع الدول في العهد القديم وبين واقعها الراهن؟ هل كان زائر القدس في عهد الرومان (هذا قبل فتحها) بحاجة إلى تأشيرة منهم، أم أن سيولة البشر بين الحدود كانت عادية للجميع؟! ثم إن القدس لم تكن في حينه من ديار المسلمين ثم احتلت وسيطرت عليها دولة أخرى.
أما المقارنة مع زيارة المسجد الحرام قبل فتح مكة، فلا قيمة لها أيضا، لأن الأخير لم يكن قد تحرر ثم احتله المشركون، وإنما كان تحت ولايتهم، وكان المسلمون يعودون إلى ديارهم التي أخرجوا منها، وهنا نذكر أن الشيخ القرضاوي قد استثنى الفلسطينيين (المهجرين) من فتوى الزيارة وخص بها العرب والمسلمين.
نشيرهنا مرة أخرى إلى أن رفض الزيارة لم يكن حكرا على العلماء ومنهم علماء الأزهر، فضلا عن الشيخ القرضاوي المستهدف بالهجوم بسبب تأثيره الواسع، ولا البابا شنودة، وبالطبع في سياق من رفض التطبيع، بل شمل أيضا مشايخ الداخل الفلسطيني، وفي مقدمتهم رابطة علماء فلسطين، والشيخ عكرمة صبري، وهو رأي الشيخ رائد صلاح وإخوانه في الحركة الإسلامية عام 48، والذين لا يمكن لأحد المزايدة عليهم في حب الأقصى والحرص على حمايته، ومعه القدس وسائر المقدسات. وبعد ذلك كله هو رأي جميع الفصائل الفلسطينية، باستثناء «فتح» في زمن عباس، وهو أيضا رأي التيارات العروبية والإسلامية والنقابات المهنية ومعظم التجمعات الشعبية.
سؤال على الهامش: لماذا تمنع سلطات الاحتلال الشيخين رائد صلاح وعكرمة صبري من زيارة المسجد الأقصى، بينما ترحب بزيارة أمثال علي جمعة والجفري (أجيبونا يا دعاة التطبيع أو السياحة «المجاهدة»؟!).
الخلاصة أن رموز التنسيق الأمني وحملة بطاقات الفي آي بي من المحتل، هم وحدهم الذين لا يجدون غضاضة في التشجيع على التطبيع عبر الدعوة لزيارة العرب والمسلمين، ولو كانوا مخلصين للقدس وأقصاها لسمعنا دعواتهم لدعم الانتفاضة الشاملة التي تلتحم بها جماهير الأمة من الخارج؛ ليكون التحرير وليس السياحة بما تنطوي عليه من تطبيع واختراق.؟
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن