تعريف الوقف لغة واصطلاحاً
كتب بواسطة بحث أعده الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
5904 مشاهدة
تعريف الوقف لغة:
الوقف في اللغة الحبس والمنع، وهو ثلاثي من الباب الثاني، يقال وقَف يقِف وقفاً، ولا يأتي رباعيًا إلا في لغة رديئة، ويُشتهر استعمال المصدر باسم المفعول، فيقال: هذه الدار وقف، أي موقوفة، ولهذا فإنه يثنى ويجمع عندئذ، فيقال: وقفان وأوقاف، ويأتي بمعنى السكون، يقال وقفت الدابة إذا سكنت.[1]
تعريف الوقف اصطلاحًا:
اختلف الفقهاء في تعريف الوقف في الشريعة الإسلامية تبعًا لاختلافهم في حقيقته، ونوع الملكية الثابتة به.
فذهب أبو حنيفة إلى أن الوقفَ حبسُ العين على حكم ملك الواقف، والتصدق بالمنفعة ولو في الجملة. ومعناه بقاء العين على ملك الواقف، مع منعه من التصرف فيها[2].
وذهب الصاحبان من الحنفية، إلى أن الوقف: (حبس الواقف العين الموقوفة على حكم ملك الله تعالى، وصرف منفعتها على من أحب). [3]
وذهب المالكية إلى أن الوقف من حيث هو مصدر هو: (إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازمًا بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً)، ومن حيث هو اسم (ما أُعطيَت منفعته مدة وجوده)[4].
وعرَّفه الشافعية بأنه: (حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود).[5]
وعرَّفه الحنبلية بأنه: (تحبيس مالك مطلق التصرف مالَه المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرفه وغيره في رقبته، يصرف ريعه إلى جهة برّ تقربًا إلى الله تعالى). [6]
وعرَّفه الزيدية بأنه: ْ(حَبْسِ مَالٍ يُمْكِنُ الانْتِفَاعُ بِهِ مع بَقَاء عَيْنِهِ لِقَطْعِ تَصَرُّفِ الْوَاقِفِ وَغَيْرِهِ فِي رَقَبَتِهِ لِصَرْفِ مَنَافِعِهِ فِي جِهَةِ خَيْرٍ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى)[7]
وعرَّفه الإمامية بما يلي: (الوقف عقد؛ ثمرته: تحبيس الأصل، وإطلاق المنفعة)[8]
وعرفه الظاهرية بالتحبيس، قال في المحلى: (والتحبيس وهو الوقف جائز….)[9].
وعرفه الإباضية بأنه: (حبس الموقوف والتصدق بالمنفعة) [10]
الألفاظ ذات الصلة:
الوصية:
الوصية في اللغة الوصل، يقال: وصيت الشيء بالشيء أصيه بمعنى وصلته، وهو من باب وعد، ووصى إلى فلان توصية وأوصى إليه إيصاء بمعنى واحد، إذا جعله وصيًا من بعده، أي عهد إليه بأمور تركته، وأوصى إليه بمال جعله له وصية، فهو موصٍ بدون تشديد، ويجوز التشديد وقد قرأ بهما قوله تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والاسم الوصاية، والإيصاء مصدر، والوصية ما يوصي به الإنسان، فهي اسم مفعول، ومنه قوله تعالى: (من بعد وصية توصون بها أو دين)، وتستعمل استعمال المصدر، ومنه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ).[11]
والوصية في اصطلاح الفقهاء لها تعريفات مختلفة باختلاف مذاهبهم، إلا أنها في عمومها اختلاف شكلي لا يمس الجوهر والمضمون.
فقد عرفها الحصكفي من الحنفية بأنها: (تمليك مضاف إلى ما بعد الموت على وجه التبرع)[12]
وقال الشربيني الشافعي: (هي تبرع بحق مضاف ولو تقديراً إلى ما بعد الموت)[13]
وعرَّفها ابن قدامة من الحنبلية بقوله: (الوصية بالمال هي التبرع به بعد الموت) [14]
ولم أعثر للمالكية على تعريف للوصية، ولكنهم من مضمون كلامهم فيها لا يخرجون فيها عن تعريف عامة الفقهاء لها، بأنها تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت.
وعرَّفها الإباضية بقولهم: (الْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ بِحَقٍّ مُضَافٍ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِتَدْبِيرٍ وَلا تَعْلِيقِ عِتْقٍ)[15]
ولم أر للزيدية تعريفًا اصطلاحيا للوصية, فقد اكتفوا بالتعريف اللغوي الأسبق لها،[16]
وعرَّفها الإمامية بقولهم: (الوصية هي تمليك عين، أو منفعة ، بعد الوفاة ويفتقر إلى إيجاب وقبول فالإيجاب كل لفظ دل على ذلك القصد)[17]
والظاهرية اكتفوا بالتعريف اللغوي لها[18].
الصَّدَقة:
الصدقة بفتح الدّال لغةً: ما يعطى على وجه التّقرّب إلى اللّه تعالى لا على وجه المكرمة،[19] ويشمل هذا المعنى الزّكاة وصدقة التّطوّع.
وفي الاصطلاح الفقهي: تمليك في الحياة بغير عوض على وجه القربة إلى اللّه تعالى، وهي تستعمل بالمعنى اللّغويّ الشّامل، فيقال للزّكاة: صدقة، كما ورد في القرآن الكريم: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [20]
ويقال للتّطوّع: صدقة كما ورد في كلام الفقهاء، وتحلّ لغنيّ، أي صدقة التّطوّع[21].
يقول الرّاغب الأصفهانيّ: الصّدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزّكاة[22].
لكنّ الصّدقة في الأصل تقال للمتطوَّع به، والزّكاة تقال للواجب، والغالب عند الفقهاء استعمال هذه الكلمة في صدقة التّطوّع خاصّةً.
يقول الشّربينيّ: صدقة التّطوّع هي المرادة عند الإطلاق غالباً[23]، ويفهم هذا من كلام سائر الفقهاء أيضاً، ويقول الحطّاب: الهبة إن تمحّضت لثواب الآخرة فهي الصّدقة[24]، ومثله ما قاله البعليّ الحنبليّ في المطلع على أبواب المقنع[25].
وفي وجه تسميتها صدقةً يقول القليوبيّ: سمّيت بذلك لإشعارها بصدق نيّة باذلها[26]، وهذا المعنى الأخير أي صدقة التّطوّع هو المقصود في هذا البحث عند الإطلاق.
وقد تطلق الصّدقة على الوقف، ومن ذلك ما رواه البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما من حديث طويل: أنّ عمر رضي الله عنه تصدّق بمال له على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان يقال له: ثمغ. .. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «تصدّق بأصله، لا يباع ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمره»[27].
كما قد تطلق الصّدقة: على كلّ نوع من المعروف، ومن ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كلّ معروف صدقة»[28].
والصدقة عرفها الإباضية بأنها: (إِيجَابٍ وَقَبُولٍ لَفْظًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: وَهَبْت لَك هَذَا، فَتَقُولُ: قَبِلْت، وَلا يُشْتَرَطَانِ فِي الْهَدِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ بَلْ يَكْفِي الْبَعْثُ مِنْ هَذَا وَالْقَبْضُ مِنْ ذَاكَ، وَكُلٌّ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ هِبَةٌ وَلا عَكْسَ، فَلَوْ حَلَفَ لا يَهَبُ لَهُ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَوْ أَهْدَى لَهُ حَنِثَ، وَالاسْمُ عِنْدَ الإِطْلاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الأَخِيرِ[29]
ولم أر تعريفًا للصدقة عند الزيدية والإمامية والظاهرية، وهذا يعني أنهم يعتمدون في تعريفها على التعريف اللغوي، وقد تقدم.
الهــبة:
الهبة في اللغة: إعطاء الشيء إلى الغير بلا عوض، سواء كان مالاً أو غير مال، فيقال: (وهب له مالاً وَهبا وهبة، كما يقال: وهب الله فلانا ولدا صالحا، ومنه قوله تعالى: (فهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً) [30]، ويقال وهبه مالاً، ولا يقال وهب منه، والأكثرون على أن وهب له متعدية بحرف الجر، والاسم من الهبة المَوهِب والمَوهِبة، والاتهاب قبول الهبة، والاستيهاب سؤال الهبة، وتواهب القوم إذا وهب بعضهم بعضًا، ورجل وهاب كثير الهبة لأمواله [31]
والهبة في اصطلاح جمهور الفقهاء: (تمليك المال بلا عوض في الحال)[32]
وعرفها الإباضية بما يلي: الهبة: (تَمْلِيكٌ بِلا عِوَضٍ) شَامِلٌ لِهِبَةِ التَّوْلِيجِ، وَأَمَّا التَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ فَبَيْعٌ وَلَوْ كَانَ أَيْضًا يُسَمَّى هِبَةً فِي الصُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ هِبَةً الثَّوَابُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لا يُدْرِكُ التَّعْوِيضَ وَلا الْعِوَضَ كَمَا يُذْكَرَانِ فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ قَالَ: بِلا عِوَضٍ مَذْكُورٍ لَعَمَّ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِوَضٌ وَمَا كَانَ فِيهِ عِوَضٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَالْبَيْعُ لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْعِوَضِ فِيهِ، وَرُبَّمَا ذَكَرَ الْعِوَضَ فِي الْهِبَةِ[33]
وعرفها الزيدية بأنها: تَمْلِيكُ عَيْنٍ فِي الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لا يَخْتَصُّ بِالْقُرْبَةِ، وَمَنْ لا يَشْتَرِطُ الْقُرْبَةَ فِي النَّذْرِ يَزِيدُ لا عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ[34]
وعرفها الإمامية بأنها: (العقد المقتضي تمليك العين من غير عوض تمليكًا منجزاً مجرداً عن القربة وقد يعبر عنها بالنِحلة والعطية .[35]
ولم أر للظاهرية تعريفًا خاصًا للهبة، وهذا يعني أنهم يعتمدون فيها على التعريف اللغوي [36]
الحــبس:
الحبس في اللّغة: المنع والإمساك، من مصدر حبس، ويطلق على الموضع، وجمعه حُبوس – بضمّ الحاء – ، ويقال للرّجل: محبوس وحبيس، وللجماعة: محبوسون وحُبُس – بضمّتين – ، وللمرأة: حبيسة، وللجمع: حبائس، ولمن يقع منه الحبس: حابس[37].
أمّا في الاصطلاح: فالحبس هو تعويق الشّخص ومنعه من التّصرّف بنفسه والخروج إلى أشغاله ومهمّاته الدّينيّة والاجتماعيّة[38]، وليس من لوازمه الجعل في بنيان خاصّ معدّ لذلك، بل الرّبط بالشّجرة حبس، والجعل في البيت أو المسجد حبس، وقد أفرد الحكّام المسلمون أبنية خاصّة للحبس، وعدّوا ذلك من المصالح المرسلة[39].
وبمعنى الحبس السّجن بفتح السّين من مصدر سجن، أمّا بكسر السّين فهو مكان الحبس، والجمع سجون.
وفي التّنزيل العزيز: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[40]، قُرئ بفتح السّين على المصدر، وبكسرها على المكان، والأشهر الكسر.
وبمعنى الحبس أيضاً الاعتقال، يقال اعتقلت الرّجل إذا حبسته، واعتقل لسانه إذا حبس ومنع من الكلام[41].
والوقف نوع من الحبس عند كثير من الفقهاء، لما فيه من منع التصرف بالعين، قال في البحر الزخار للزيدية: (يقال وقفت في الفصح، وأوقفت ضعيف، وأحبست وحبست سواء) [42] ، وقال ابن حزم في المحلى: (والتحبيس هو الوقف)[43].
التَّبــَرُّع:
التّبرّع لغةً: مأخوذ من برع الرّجل وبرع بالضّمّ أيضاً براعةً، أي فاق أصحابه في العلم وغيره، فهو بارع، وفعلت كذا متبرّعاً أي متطوّعاً، وتبرّع بالأمر: فعله غير طالب عوضاً [44].
وأمّا في الاصطلاح، فلم يضع الفقهاء تعريفاً للتّبرّع، وإنّما عرّفوا أنواعه، كالوصيّة والوقف والهبة وغيرها، وكلّ تعريف لنوع من هذه الأنواع يحدّد ماهيّته فقط، ومع هذا فإنّ معنى التّبرّع عند الفقهاء كما يؤخذ من تعريفهم لهذه الأنواع، لا يخرج عن كون التّبرّع بذل المكلّف مالاً أو منفعةً لغيره في الحال أو المآل بلا عوض بقصد البرّ والمعروف غالباً.
مشروعية الوقف وحكمه التكليفي وحكمته
الوقف مشروع باتفاق الفقهاء، وهو مباح ومندوب إليه لمن كان غنيًا، لأنه صدقة من الصدقات، وقد ثبتت مشروعية الصدقات عامة والندب إليها بالكتاب الكريم والسنة الشريفة.
فمن الكتاب العزيز قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [45]، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [46]
ومن السنة الشريفة ما رواه البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ زَيْنَبُ فَقَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ فَقِيلَ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ نَعَمْ ائْذَنُوا لَهَا فَأُذِنَ لَهَا قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ.
أما مشروعية الوقف خاصة والندب إليه، فقد ثبتت بالسنة الشريفة، والإجماع، والقياس.
فمن السنة الشريفة ما روى أصحاب الكتب الستة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب أرضًا من أرض خيبر، فقال: (يا رسول الله : إنما أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني: قال صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها عمر رضي الله عنه ألا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول)، وفي بعض طرق البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره) وفي بعض الروايات: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث).
وأما الإجماع، فلأن المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على إباحة الوقف والندب إليه من غير أن ينكر واحد منهم ذلك، فكان إجماعا، قال جابر رضي الله عنه: (ما أعلم أحدًا كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالا من صدقة مؤبدة لا تشترى أبدًا ولا توهب ولا تورث)[47]، وقال ابن قدامة: (وهذا إجماع من الصحابة رضي الله عنهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف واشتهر ذلك فلم ينكره أحد فكان إجماعًا[48]، وقال ابن رشد: (الأحباس سنة قائمة عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده)[49].
وأما القياس، فلأن الوقف نوع صدقة من الصدقات، وتبرع من التبرعات، وهي جميعًا جائزة ومندوب إليها بالنصوص الكثيرة، وقد تقدم بعضها، ولم يأت ما يمنع منه، فكان مندوبًا إليه على القياس.
هذا هو حكمه الأصلي، وقد يطرأ على الوقف طارئ فيخرج به عن حكمه الأصلي إلى الكراهة أو الحرمة أو الوجوب.
فيجب إذا نذره ناذر، كما إذا قال: (إن قدم ولدي من سفره سالمًا فعليَّ أن أقف هذه الدار على ابن السبيل).
وقد يكون مباحًا إذا خلا عن قصد القربة لله تعالى، ولذا يصح وقف الذمي ولا ثواب له،
ويحرم كما لو وقف مسلم على معصية، كوقفه على كنيسة[50].
والحكمة في مشروعية الوقف والندب إليه أمور واضحة لا تخفى على أحد، وأهم هذه الأمور ما يلي:
1- تفتيت الثروة كلما تجمعت في يد أحد، والعمل على عدم تجميعها في يد الورثة، لأن الوقف في الغالب يكون للورثة وغير الورثة معًا، فلا يكون خاصًا بهم، وهو وإن كان لهم وحدهم أحيانًا، فلن يكون إرثًا عنهم بعد وفاتهم، ولكن لمن بيَّنه الواقف خاصة.
2- تأمين صدقة جارية يستمر خيرها للواقف، ويلحقه أجرها إلى مدة طويلة، وربما إلى أخر الدنيا، وهو من أهم ما يفيد الإنسان المسلم بعد موته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) [51] تأمين مورد دائم لكثير من المحتاجين والفقراء والمعوزين المستفيدين من الوقف، من الورثة وغيرهم، ذلك أن الموقوف من المال خارج عن التركة، وغير داخل في الإرث، ولأن نهايته يجب أن تكون لجهة دائمة لا تنقطع، وهي الفقراء والمساكين.
3- تلبية رغبة الواقف في نقل الاستفادة من أمواله الموقوفة لمن يريده ويحبه، ذلك أن الموقوف من المال خارج عن التركة، ولا يدفع إلا للموقوف عليهم.
4- تفويت الفرصة على الجاهلين من الورثة في إضاعة ما ورثوه، لسوء تصرفهم، حيث يمنعون من بيع عين الموقوفات والتصرف بأعيانها، سوى الانتفاع بها انتفاعا معتادًا مدى الحياة، بحسب شرط الواقف.
5- تأمين مورد دائم للجهات الخيرية والدينية العامة التي ربما يتساهل الناس في العناية بها والإنفاق عليها، كالمساجد، والمستشفيات، والمبرَّات، والزوايا…. ذلك أن الوقف الخيري إنما شرع لمثل هذه الأمور، وأنه لا يخلو عادة وقف من جهة خير، حالاً أو مآلاً، لأن الأوقاف الأهلية يشترط لصحتها أن تؤول إلى الخيرات عند انعدام المستحقين لها، وإلا لم تصح.
حكم الوقف من حيث اللزوم والجواز
اختلف الفقهاء في حكم الوقف من حيث آثاره النوعية على ثلاثة مذاهب:
1- فذهب الشافعية والحنبلية والصاحبان من الحنفية، إلى أن حكم الوقف (انتقال ملكية العين الموقوفة من ملكية الواقف إلى حكم ملك الله تعالى انتقالاً لازمًا، واستحقاق الجهة الموقوف عليها لريع العين الموقوفة استحقاقًا لازماً، من حين الوقف) وعليه، فليس للواقف الرجوع في وقفه بعد تمامه صحيحًا ، ولا تغيير مستحقيه، أو شروطه… في حياته، وليس لورثته ذلك بعد موته أيضا.
2- وذهب المالكية إلى أن ملكية عين الموقوف لا تزال على ملك الواقف بعد الوقف، ولا تخرج عنه بالوقف، إلا أن الواقف ملزم بالتبرع بالريع والمنافع على وفق شرطه، وهو ممنوع من التصرف بالعين الموقوفة تصرفًا يخرجها عن ملكه، كالبيع والهبة.
3- وذهب أبو حنيفة إلى أن الوقف حبس العين على ملك الواقف، فلا تخرج العين بالوقف عن ملكه، وأما المنافع، فهي ملك المستحقين لها بالوقف، إلا أن ذلك غير لازم، فللواقف عند أبي حنيفة الرجوع في وقفه أصلاً، والتصرف في عينه بالبيع والإجارة والهبة و… إلا في حالين يلزم فيهما الوقف عنده:
الأول: أن يقضي به قاض، فيكون لازمًا، لأن قضاء القاضي يحسم النزاع في الأمور الاجتهادية، وهذا منها.
الثاني: أن يخرج مخرج الوصية، فيلزم في هذه الحال بوفاة الواقف.
هذا ولكل من هذه الأقوال الثلاثة أدلتها المبسوطة في كتب الفروع[52].
4- والظاهر أن الزيدية مع الإمام أبي حنيفة، قال في البحر الزخار: (لا ينفذ إلا بحكم أو إخراجه مخرج الوصية) [53]
5- والإمامية نصوا على أن الوقف لازم، قال جعفر بن الحسن الهذلي: (وَلا يَلْزَمُ إلا بِالإِقْبَاضِ، وَإِذَا تَمَّ كَانَ لازِمًا لا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ، إذَا وَقَعَ فِي زَمَانِ الصِّحَّةِ)[54] .
7 – ونص الإباضية على أن الوقف لا يلزم إلا بحكم، أو أن يخرج مخرج الوصية، قال في شرح النيل: (ولا يلزم إلا بحكم عدل أو قال:إذا مت فقد وقفته)[55]
8 – و لم أر للظاهرية نصًا صريحًا في ذلك، والظاهر أنهم مع الجمهور في لزوم الوقف إذا استوفى شروطه، قال في المحلى: (وأتى أبو حنيفة بقول خالف فيه كل من تقدم، والسنة والمعقول، فقال: الحبس جائز في الصحة وفي المرض إلا أن للمحبِّس إبطاله متى شاء وبيعه وارتجاعه بنقض الحبس الذي عقد فيه، ولا يجوز بعد الموت أيضًا، وهذا أشهر أقواله، وروي عنه أنه لا يجوز إلا بعد الموت، ثم اختلفوا عنه أيجوز للورثة إبطاله وهذا هو الأشهر عنه أم لا يجوز؟[56]
تاريخ الوقف
تاريخ الوقف قبل الإسلام:
الوقف معروف عند الأمم السابقة قبل ظهور الإسلام وبعده، وإن لم يسم بهذا الاسم، فالإنسان منذ القديم عرف المعابد ورصد عليها العقارات، والأراضي، للإنفاق عليها من غلتها، وعلى القائمين بأمرها، ولا يفسَّر هذا إلا على أنه في معنى الوقف.
ومن هنا يمكن القول إن فكرة الوقف كانت موجودة قبل الإسلام عند كثير من الأمم السابقة على الإسلام، فقد وجدت عند قدماء المصريين، حيث كانت الأراضي ترصد على الآلهة والمعابد والمقابر، وتؤخذ غلتها للنفقة عليها، وكذلك ينفق على الكهنة والخدام من هذه الأموال، وكان الناس وقتها مدفوعين إلى هذا التصرف بقصد فعل الخير والتقرب إلى الآلهة كما زعموا.
وكان هذا الشيء موجوداً عند قدماء العراقيين، وعند الرومان وغيرهم.
ومن الأوقاف التي اشتهرت عند العرب قبل الإسلام الوقف على الكعبة المشرفة، بكسوتها وعمارتها كلما تهدمت، وأول من كسا الكعبة ووقف عليها (أسعد أبو كريب ملك حمير).
أما قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته داراً، ولا أرضاً تبرراً بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام). فالإمام الشافعي هنا لم ينف وجود الأحباس في الجاهلية قطعاً، بل نفى وجود الأحباس التي يقصد منها القربة والبر آنذاك، وعلى هذا فإن فكرة الوقف أو حبس العين عن التمليك والتملك، وجعل منافعها مخصصة لجهة معينة، فكرة قديمة معروفة قبل ظهور الإسلام بزمن بعيد[57].
وفي العصر الحاضر: في بعض الأنظمة الغربية ما يشبه الوقف، ومن ذلك أن النظام الألماني جعل هناك ذمة مالية لمجموعة من الأموال، يصرف ريعها وغلتها على الأعمال الخيرية، ويوجد هناك مشرف لهذا المال، يشبه الناظر على الوقف في النظام الإسلامي.
ذلك يوجد ما يعرف بالإنفاق على الكنائس والمعابد من قبل الناس، بقصد القربة.”[58].
تاريخ الوقف في الإسلام:
تقدم الكلام عن تاريخ الوقف مجملاً في بحث مشروعية الوقف سابقًا.
والله تعالى أعلم.
الأربعاء 14 رمضان 1428هـ و 26/9/2007م
أعده أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية وعضو هيئة الفتوى
فـي وزارة الأوقاف والشـؤون الإسلامية بدولة الكويت
[1] لسان العرب، والمصباح المنير، مادة (وقف).
[2] الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3/357-358، والهداية 3/13-14.
[3] الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3/357-358، والهداية 3/13-14.
[4] منح الجليل 4/34، وجواهر الإكليل 2/205.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن