حين تستلهم الثورات دروس (الحجّ)!...
الحجّ عبادةٌ عظيمة في أسرارها ومقاصدها، كما في شعارها - الرائع بتأثيراته الوجدانية ودلالاته في عالم الأفكار والمشاعر وحتى في عالم السياسة -: (لبيك اللهم لبيك... لبيك لا شريك لك لبيك... إن الحمدَ والنعمة لكَ والمُلك... لا شريك لك).
وَلَكَمْ استجاشَتْ هذه العبادة أشواق وتطلّعات وتأمّلات الكثيرين من الرحّالة والمفكرين والباحثين عن الحقيقة وعن أسمى مشاعر التعبير عن علاقة الحب للرب الخالق... فضلاً عن العُبّاد المحبِّين والزهّاد الصالحين... فدفعتهم للتنعّم الروحي والفكري في أجوائها وبعيداً عن ضوضاء الحياة وصَخَبها... وبعض هؤلاء غير مسلمين وقد رحلوا من أجل استكشاف الأسرار بل تخفَّوْا لكي يَصِلوا إلى البيت الحرام ويرقبوا بعيون قلوبهم أسرار هذه العبادة ومشهد المسلمين - الأمة العظيمة الوحيدة الموحِّدة - وهم يؤدّونها!
ولقد سجَّلَتْ كُتب أو مقالات رحلات المسلمين إلى الحج وخاصة المهتدين الجدد مثل رحلة د. محمد أسد (ليوبولد فايس النمساوي) انفعالاتِهِم ومشاعرَهم، ومن الممتع أنّ الداعية الكابتن محمد موسى الشريف تقصَّى عدداً غير قليل منها في كتابه الرائع (المختار من الرحلات الحجازية) في أربعة مجلدات، كما شوّق للتعرُّف عليها أمير البيان، السياسي الحكيم شكيب أرسلان، في مقالته (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاجِّ إلى أقدس مطاف)...
و(الثورات) اليوم التي تشهدها بعض الدول العربية: سواءً ما انتهى منها إلى قَلْع حاكمها الطاغية المستبد أو التي لا زالت تصارع طُغاتَها في معمعة المواجهات الوحشية الشرسة وتلك التي في التمهيد للمواجهة... تحتاج إلى استلهام دروس هذه العبادة لكي تُؤتي أُكُلها وتتسدّد مسيرتُها وتتصوّب بوصلتُها في الاتجاه الصحيح.
إن المعنى العميق الذي يُغرِقُ فيه الحجُّ المسلمين الحجّاج في بحر روحانيّاته العذبة الرقراقة وهو معنى (العبوديّة) لله و(التلبية) لنداء الله... مع ابتهاج الأشواق وسعادة الأرواح وتلبية مستمرة عامّة في كلِّ ميادين الحياة... يجب أن يُحدث أولاً ثورة تغييرية على مستوى الأفراد تبدأ بالتوبة، وتستمر بالطاعة والالتزام، وتتوجّه صوب (رضا الرحمن).
وثانياً على مستوى الأمة لأنّ عبادة الحجّ تُعمّق الولاء لكيانها العام، لتتطهّر من الجاهلية العنصرية ومن الحدود الجغرافية والانتماءات المتعصّبة الوطنية... وليشعر الجميع بالانتماء لأمة عظيمة سِمَتُها الأولى التوحيد وواجبها الدائم إعلاء كلمة الله بتحكيم قانونه والانصياع لشريعته دون القوانين الوضعية الوضيعة والدساتير الأرضية السخيفة.
وثالثاً لتُرقِّي هذه العبادة وعيَ الأمة واهتمامها لتتعاطى مع كل قضايا المسلمين، ولتتحقق في مشهدٍ مهيبٍ مُثُلٌ رائعة: كوحدة الأمة والمساواة والشورى، وكالتضامن في حمل هموم المسلمين والتداول في قضاياهم لوضع الخطط والبرامج للنصرة والمؤازرة.
ولا شك أن (الثورات) حين تستلهم هذه الدروس من عبادة (الحجّ) تستعيد أمّتنا عافيتها وعزّتها الفكرية والسياسية ما يدُلُّ على أنها تؤدي العبادات مع يقظة فكر وحضور قلب وتعمُّق في فهم فلسفتها ورمزيّتها.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن