سبع اشياء يؤجر عليها العبد وهو فى قبره
من عظيم نعم الله على عباده المؤمنين أن هيأ لهم أبوابا من الخير والبر والإحسان عديدة يقوم بها المؤمن في حياته ويجري ثوابها عليه بعد مماته, فأهل القبور في قبورهم مرتهنون, وعن الأعمال منقطعون, وعلى ما قدموا في حياتهم محاسبون ومجزيون, بينما هذا المؤمن في قبره الحسنات عليه متوالية, والأجور والأفضال عليه متتالية، ينتقل من دار العمل ولا ينقطع عنه الثواب والأجر، تزداد درجاته وتتنامى حسناته وتتضاعف أجوره وهو فيقبره، فما أكرمها من حال! وما أجمله وما أطيبه من مآل!
إن من الناس من يموت وتبقى حسناته بعده تجري عليه في قبره بما قدمه في حياته من أعمال خير وبر وإحسان، والله جل وعلا بين في كتابه أنه لا يضيع أجر المحسنين، وقال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ"، يعني نكتب آثارهم التي تركوها في الدنيا، فيكتب الله ما قدموا في حياتهم من صلاة وصدقة وصيام وذكر وأعمال بر وإحسان.
بيّن النبي عليه الصلاة والسلام سبعة أبواب يجري للعبد ثوابها وأجرها بعد موته إذا عملها في حياته، ربما لا يبذل فيها المؤمن مالا كثيرا ولا جهدا كثيرا ومع ذلك يجري له ثوابها ويدوم أجرها ويبقى أثرها بعد موته في قبره إلى أن يلقى الله تعالى. ولنتأمل مليا -عباد الله- هذه الأعمال ولنحرص على أن يكون لنا منها حظ ونصيب ما دمنا في دار الإمهال, ولنبادر إليها أشد المبادرة قبل أن تنقضي الأعمار وتنصرم الآجال, وذلك فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((سبع يجري للعبد أجرهنّ وهو ميت في قبره: من علم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته)) رواه البزار بسند حسن.
بدأ الرسول اشياء يؤجر عليها العبد قبره بتعليم العلم لأهميته ومكانته وشرفه، والمراد بالعلم هنا العلم النافع الذي يبصر الناس بدينهم ويعرفهم بربهم ومعبودهم, ويهديهم إلى صراطه المستقيم، العلم الذي يعرف به الهدى من الضلال, والحق من الباطل والحلال من الحرام. وهنا -عباد الله- يتبين عظيم فضل العلماء الناصحين والدعاة المخلصين, الذين هم في الحقيقة سراج العباد ومنار البلاد، وقَوَام الأمة وينابيع الحكمة، فهم يعلمون الجاهل ويذكرون الغافل ويرشدون الضال، وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: ((من علم علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل)) رواه ابن ماجه بسند صحيح.
ومهما بلغت بما معك من علم وإن كان شيئا يسيرا فأنت ممن علّم العلم الذي يستمر له أجره إلى يوم القيامة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((بلغوا عني ولو آية))، والقرآن الكريم فيه أكثر من ستة آلاف آية فلو أنك بلغت آية واحدة لكنت ممن علّم علما، ولا تحتقر شيئا تبلغه وتعلمه للآخرين قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)) رواه الترمذي وابن ماجه وهو صحيح، وفي الحديث المشهور قال النبي عليه لسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم وغيره.
كذلك من علم علما ينتفع به الناس من علوم الدنيا في حياتهم مثل علم الطب والهندسة والإدارة والتقنيات الحديثة والصناعات المختلفة وكافة العلوم المعاصرة التي بها قوام الأمم والحضارات وبها رقيها وازدهارها والتي تعود بالنفع والخير والإحسان للناس وبه تتيسر أمور معاشهم.
ومن الأعمال التي يجري ثوابها إجراء الأنهار, والمراد شق جداول الماء من العيون والأنهار, لكي تصل المياه إلى أماكن الناس ومزارعهم فيرتوي الناس وتسقَى الزروع وتشرب الماشية, وكم في مثل هذا العمل الجليل من الإحسان إلى الناس، والتنفيس عنهم بتيسير حصول الماء الذي به تكون الحياة، بل هو أهم مقوماتها، قال الله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ".
ويلتحق بهذا مدّ الماء عبر الأنابيب إلى أماكن الناس ومواطن حاجتهم، ويلتحق بهذا أيضا وضع برادات الماء في أماكن الناس العامة مثل الأسواق والمدارس والمساجد وغيرها، وقد جاء في السنة الشريفة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: ((بينما رجل بطريق، فاشتد عليه العطش, فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش, فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له)), قالوا: يا رسول الله، وإنا لنا في البهائم لأجرا؟! قال: ((في كل ذات كبد رطب أجر)) رواه البخاري ومسلم. فكيف -عباد الله- بمن حفر البئر وتسبب في وجودها حتى ارتوى منها خلق وانتفع بها كثيرون؟!
ثم قال عليه النبي الصلاة والسلام فيما ينفع المؤمن بعد موته: ((أو غرس نخلا)). النخل سيد الأشجار والنباتات، نفعه عظيم سواء بثمره الذي يخرج منه أو بليفه أو بعسفه، كل شيء نافع فيه، وقد شبه النبي عليه لصلاة والسلام النخلة بالمؤمن، قال رسول الله: ((مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شيء نفعك)) رواه الطبراني. فالمؤمن كل شيء فيه نافع؛ كلامه نافع، نصحه نافع، ماله نافع، عقله نافع، والنخلة ربما تغرس اليوم ولا يظهر ثمرها إلا بعد أربع سنين أو أكثر ومع ذلك يؤجر من يغرسها، كل من أكل منها من طير أو حيوان أو إنسان، فمن غرس نخلا وسبَّل ثمره إلى الناس فإن أجره يستمر كلما طعم من ثمره طاعم، وهكذا الشأن -عباد الله- في غرس كل ما ينفع الناس من الأشجار, وإنما خص هذا النخل بالذكر لفضله وتميزه، قال رسول الله: ((ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة)) رواه مسلم.
ثم قال عليه السلام فيما ينفع العبد بعد موته: ((أو بنى مسجدا))، والكلام عن فضل بناء المساجد لا يحتاج إلى طول كلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام شارك بنفسه في بناء المسجد مع أصحابه، والمساجد هي أحب البقاع إلى الله والتي قال فيها: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسْمُهُ"، وإذا بني المسجد أقيمت فيه الصلاة, وتلي فيه القرآن وذكر فيه الله، ونشر فيه العلم، واجتمع فيه المسلمون إلى غير ذلك من المصالح العظيمة, ولبانيه أجر في ذلك كله, وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: ((من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى له بيتا في الجنة)). وليس بلازم أن يكون مسجدا واسع الأطراف جميل البناء له مرافق كثيرة، وإنما موضع مناسب يصلي فيه الناس، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: ((من بنى مسجدا لله كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة)) رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما. ومعنى مفحص قطاة: القطاة نوع من الطير إذا أراد أن يبيض حفر مكانا في الأرض صغيرا وباض فيه، ومدلول الحديث المساهمة في بناء المساجد ولو مسجدا صغيرا غير مكلف ولا متكلف فيه، وهناك بعض المساجد إذا لم تستطع أن تبنيها فساهم في المسجد بما تستطيع، وليس شرطا أن تشارك في بناء مسجد، وإنما تشارك ولو بشيء يسيرا، كتنظيف المسجد وتعديله أو إضافة بعض الأشياء المهمة فيه، أو تصليح بعض مستلزماته.
عباد الله، ومما ينفع العبد بعد موته توريث المصاحف، وذلك يكون بطباعة المصاحف، وشرائها ووقفها في المساجد ودور العلم حتى يستفيد منها المسلمون, ولواقفها أجر عظيم كلما تلا في ذلك المصحف تالٍ، وكلما تدبر فيه متدبِّر, وكلما عمل به عامل.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحرصوا على اغتنام هذه الأعمال لتنفعكم في حياتكم ومماتكم ويوم أن تلقوا ربكم، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.
ختم النبي اشياء يؤجر عليها العبد قبره فيما ينفع المؤمن بعد موته بقوله: ((أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته)). إنّ الأولاد -أيها المسلمون- من بنين وبنات هم قرة عين الإنسان في حياته، وبهجته في عمره، وأنسه في عيشه، بهم تحلو الحياة، وعليهم تتعلق الآمال بعد الله عز وجل، ولا شك أن هذا كله يتعلق بحسن تربيتهم وتنشئتهم النشأة الصالحة التي تجعل منهم عناصر خير وعوامل بر ومصادر سعادة، إذا توافر للإنسان في أولاده ذلك كانوا بحق زينة الحياة الدنيا كما وصفهم الله عز وجل بقوله: اشياء يؤجر عليها العبد قبرهالْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَااشياء يؤجر عليها العبد قبره. هذه الزينة وتلكم البهجة لا تطيب وتحسن إلا بمتابعتها ورعايتها وتهذيبها. لقد فاز أبٌ اصطفى المعدِن وسقى الغرس وتابع النمو وأصلحَ الخلل وصنع الهم والاهتمام، فاهتزت تلك الثمرة وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج.
عباد الله، إن أولادَنا ثمراتُ قلوبنا، وفلذاتُ أكبادنا، وهديةُ الله إلينا، وزينةُ حياتنا، والأثرُ الصالح الذي نُذكَر به إذا كانوا صالحين، وهم من كسبنا، ودعاؤهم من العمل الذي لا ينقطع بموتنا، قال رسول الله: ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ))، وذكر: ((أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)).
إن أبناءَنا وبناتِنا هم جسدُ الأمة وعَقلُها المفكر وقلبُها النابض، جعلهم الله أمانةً في أعناقنا، يقول رسول الله: ((أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ)) رواه البخاري.
إن أولادَنا أحوجُ إلى التربيةِ والتزكيةِ والرعايةِ منهم إلى الطعامِ والشرابِ والدواءِ؛ لأن الطعامَ والشرابَ والدواءَ ينفعُ البدنَ أما التربيةُ والتزكيةُ فإنها تحفظُ الدينَ والعقلَ والعرضَ والنسلَ والجسمَ والمالَ، وأفضلُ هدية يقدمها الوالدان والمربون لأولادهم هي التربيةُ والتأديب، قال رسولُ الله: ((مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ)). هكذا يكون الأبناء بحسن تربيتهم ورعايتهم زينة الحياة الدنيا، فبحسن رعايتهم لا يغلق كتاب المرء بعد وفاته، بل يظل مفتوحا ينهل من دعوات أبنائه له وترحماتهم عليه.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتزودوا من دنياكم لأخراكم، وبادروا بالأعمال قبل انقطاع الأجل وفوات العمر، فالدنيا ليست دار قرار وإنما هي إلى زوال وبوار.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة