نساء غزة (لقاء مع أم نضال)
أثبتت المرأة في غزة أنها متمايزة عن مثيلاتها في الشرق والغرب بصبرها وثباتها وجهادها وتضحياتها الجِسام، وبمشاركتها في نجاح المعركة، وبمساهماتها في صميم العمل الجهادي، وقبل ذلك بفَهمها المتقدّم وبوعيها لحقيقة المعركة ومتطلّباتها، وفوقه: بيقينها بالله تعالى وثقتها بنصره... أبدعت رغم سنوات الحصار التي أنهكت الشعب بأكمله، وواصلت بنَفَسٍ طويل وقلبٍ كبير، ولم تُقعِدها الظروف التي تنتاب أيّ امراة عن القيام بواجبها تجاه دينها وقضيتها وأرضها... إنها ابنة الأرض الطيِّبة المباركة فلسطين... من رَحِمها خرجت: تنجب وتربي وتفني جسدها وطاقتها ثم تقدّم نِتاج جهدها المبارك إما للسجون أو للشهادة... وما يمنعها ذلك من مواصلة المسيرة على الدرب نفسه.
عن جهاد المرأة الفلسطينية في غزة وتضحياتها ودورها في صناعة جيل الانتصار... تحدّثنا المجاهِدة "أم نضال فرحات" من غزة في هذا اللقاء:
1. «منبر الداعيات»: أمُّ الشهداء، خنساء فلسطين, المجاهدة أم نضال فرحات غنيّة عن التعريف، ولكن نطمع أن نعرف المزيد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أخواتي وبناتي الحبيبات في مجلة منبر الداعيات.. يسعدني ويشرفني أن أتحدث إليكن سائلة المولى عز وجل أن يكون عملكن هذا ابتغاء وجه الله، وأن ينفع به المرأة المسلمة أينما كانت، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتكن.
وباسمي وباسم الشعب الفلسطيني في غزة نهديكم جميعاً – أمتنا العربية والإسلامية – هذا النصر ونثمِّن مواقفكم معنا ونقول لكم: إننا لم نصنع هذا النصر وحدنا، ولكن الأمة كلّها شاركتنا فيه كلاًّ في موقعه. فجزاكم الله عنا خير الجزاء.
أمّا عني فأنا: الأَمَة الفقيرة إلى الله مريم محمد محيسن الملقّبة بأم نضال فرحات، أرملة، توفي زوجي منذ ثلاث سنوات، لي من الأبناء ستة استُشهد منهم ثلاثة وبقي ثلاثة, وأتشرّف بأنهم جميعاً مجاهدون في سبيل الله، ولي من البنات أربع متزوجات، إحداهن استُشهد زوجها. أعمل الآن نائباً في المجلس النيابي الفلسطيني.
2. «منبر الداعيات»: حدِّثينا عن بدايات عملك الجهادي، وعن دورك في مساعدة المجاهدين أثناء مطاردتهم (وعلى رأسهم الشهيد عماد عقل).
إنّ عملي الجهادي هو أحد الواجبات الدينية التي لا يقام الإسلام إلاّ بها, و هو فرض على كل مسلم منا، وإذا سألتم عن بداية سلوكي هذا الطريق فعلياً؛ فقد تزامن مع بداية الانتفاضة حيث غرستُ في نفوس أبنائي منذ صِغَرهم المعاني الجهادية، وكان لنا في ذلك جولات وجولات. وأخذ العمل الجهادي يكبر كلما كبر الأبناء؛ فمِن رَشْق الحجارة إلى إيواء المطارَدين، وكان لنا الشرف العظيم في استضافة أوّل مجموعة من المجموعات التي بدأت بالجهاد المسلح وعلى رأسها القائد البطل الشهيد عماد عقل الذي كنت أعتبره أحد أبنائي؛ فقد مكث في بيتنا مدة عام نفّذ خلاله حوالي عشرين عملية لم تفشل منها إلا واحدة فقط. وأتحدث بصراحة: لم يمر عليّ بطل كهذا في أخلاقه وفي صفاته وفي يقينه وفي إخلاصه... ولا أستطيع أن أذكر كل ما أعرفه عنه وأذكر بعضاً من سلوكه؛ حيث كان لايكاد ينتهي من عملية إلا ويبدأ التفكير في غيرها، والليلة التي تسبق العملية يقوم ليلها ويصوم نهارها ويغتسل قبل أن يخرج.
3. «منبر الداعيات»: سمعنا عبر فضائية الجزيرة مجاهداً يقول بما معناه: إن والدته كانت تقول له لا أريدك إلا منتصراً أو شهيداً، وإلا فلا ترجع: من أين لهذه الأم بكل تلك القوة؟
ليست هي المرأة الوحيدة، ولكنهن كثيرات، وهذا ليس بالأمر الغريب؛ فهذه الثقافة أصبحت لدى أغلب نساء فلسطين، ولا أبالغ، ومَن لا يصدق فليأت إلى أعراس الشهداء وليرَ بعينه ويسمع بأذنه ما تقوله أمهات الشهداء... وهذه القوة ليست إلا قوة اليقين بالله عز وجل... والنظرة الآن - وأقول الآن لأنها لم تكن في السابق - قد تجاوزت حدود المكان والزمان في الدنيا إلى ما عند الله في الآخرة.
4. «منبر الداعيات»: كيف تصفين لنا مشاعر المرأة وهي تودّع وليدها مجاهداً، وتستقبله شهيداً في سبيل الله؟
المرأة المسلمة لديها أقوى المشاعر وأشدّها عاطفة، لكن هناك واجبات شرعية على الإنسان المسلم، وهي خط أحمر لا يمكن تجاوزه تحت ضغط المشاعر، فإن غلّبنا مشاعرنا وعواطفنا على الواجب المقدّس فأين إيماننا؟ فالإيمان هو سلوك على أرض الواقع لا بدّ من تطبيقه. صحيح أن أبناءنا أغلى من أنفسنا، ولكن ليس أغلى من الله عزّ وجلّ. نودّعهم لأجل الله ونستقبلهم شهداء لأجل الله، وقد أدَّوْا واجبهم نحو ربّهم؛ فهذه هي سعادة الأم بابنها في طاعة الله، ولذة الطاعة تغطّي على ألم المُصاب.
5. «منبر الداعيات»: ما موقع المرأة في حركة حماس؟ وما أبرز أساسات التربية التي تُربّى عليها النساء في الحركة؟
المرأة في حركة حماس لها شأنها وموقعها المحترم كما هي معزّزة مكرّمة في ظلِّ هذا الدين القويم، ولها احترامها وشأنها العظيم في كل مكان تكون فيه. وهي شقيقة الرجال في كل الميادين، بما تحفظه لها الشريعة وفي حدودها. والأساسات التي تتربى عليها النساء في الحركة هي كل ما تشمله التربية الإسلامية؛ فمنذ الصِّغَر تتربى الفتيات في المساجد، وعلى موائد القرآن، وكذلك في المدارس والجامعات... تربّى تربية خاصة قائمة على حُسْن الخُلُق والسلوك الإسلامي.
6. «منبر الداعيات»: كان للمرأة في معركة الفرقان أدوار متعددة، فما أبرزها؟ وكيف تقوِّمين أداءها؟
كان للمرأة في «معركة الفرقان» دورٌ مميّز؛ فهي التي ساندت أبطال المعركة في إقبالهم على الجهاد بكلِّ شجاعة وإقدام، وكان هذا دعماً معنوياً للأبناء والأزواج المجاهدين في الميدان. وقد قدم النساء والرجال بيوتهم التي هجروها للمجاهدين لتكون لهم مواقع متقدمة في مواجهة العدو... كما قدمت النساء للمجاهدين الدعم المادي من طعام وشراب... ولكن من أبرز أدوارها هو: التكافل الاجتماعي المنقطع النظير؛ فقد استضاف الناس بعضُهم بعضاً، وكانت المرأة تقوم على خدمة جميع مَن في البيت وتوفير ما يلزم لكل الأفراد من رجال ونساء وأطفال، وصبرت على فِراق أحبّتها، وقُتل الكثير أمام أعين الأمهات والزوجات. وبعد ذلك صبرت وصمدت ولم يكن صمودها عادياً بل أسطوريّاً، فهي التي تعالت على كل الآلام وداست على الجراح لتسمو بهمتها العالية فوق كل الاعتبارات.
7. «منبر الداعيات»: ما نسبة إقبال الفتيات الغَزِّيات على العمل الأمني والعسكري؟ وما الشروط المطلوب توافرها فيمن تريد أن تلتحق بكتائب القسام؟
إن الهمة العالية وخاصة العسكرية لدى المرأة الغزِّيّة تدفعها إلى البحث دائماً عن المجالات العسكرية لتخدم فيها. وأقول بصراحة: إنها حتى الآن لم تجد لها فرصة لتحقق رغبتها في أن تقوم بدورها تأسياً بإخوانها المجاهدين، والسبب أن نسبة الرجال في غزة عالية جداً، ويعتبر العسكريون أن الرجال أقدر على المواجهة من النساء، ولكن هناك بعض الأدوار القليلة التي تقوم بها النساء، وذلك لا يلبي طموح الأخوات بشكل مُرْضٍ. وإذا كان هناك فرصة لأي عمل عسكري فسوف تكون له شروطه الخاصة.
8. «منبر الداعيات»: ألا يتعارض عمل المرأة في السياسة أو مشاركتها في المجال الأمني أو العسكري مع تربية أبنائها ورعاية زوجها والقيام بأعباء المنزل؟ وكيف توفّق بين مهامها في الداخل والخارج؟
العمل السياسي للمرأة أو الأمني أو العسكري كأي عمل آخر تقوم به المرأة غير عملها في البيت في تربية الأبناء ورعاية الزوج، وتستطيع صاحبة الهمة العالية أن توفق بين هذه الأعمال كلها; وقد جرّبتُ بنفسي كل هذه الأعمال، وبدون فخر، ها أنا اليوم أعمل في المجال السياسي وأقوم بخدمة الناس بالرغم من أنني مريضة أيضاً. وكل منا يستطيع أن يقوم بأكثر من دور إذا توفرت الإرادة.
9. «منبر الداعيات»: أثناء الحرب: شاهدنا عبر الفضائيات أطفالاً ليسوا بأطفال بل هم رجال ونساء: ما الذي يجعل أطفال فلسطين يكبرون سريعاً؟ وما نوعية التربية التي تنقلهم إلى خانة الكبار؟
هؤلاء الأطفال أنضجتهم المحنة والظروف القاسية التي يمرون بها ويعيشونها؛ فالمحن والصعاب تولِّد الإبداع في كل شيء، حتى أن أهل غزة عموماً أبدعوا في اختراع بدائل كثيرة في حياتهم نتيجة الحصار وتداعياته.
هناك عامل آخر ساعد الصغار على النضوج المبكر هو الصحوة الإسلامية التي لازمتها التربية في المساجد ولم تكن هذه المسألة نظرية: إن الممارسة الجهادية على أرض الواقع غذتهم بالمفهوم الحقيقي للإسلام، وكيف يكون سلوكاً على أرض الواقع؛ فعندما يرتقي شهيد نرى كل الأطفال يتمنَّون أن يكونوا شهداء، ووالله إن الأشبال يتسابقون على الشهادة بشكل عجيب؛ فهم يكتبون وصاياهم وهم في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة أو أقل من ذلك، وقد ودّعني أصغر أبنائي الشهيد رواد فرحات لينفذ عملية وهو في سن الرابعة عشر، وقد أصاب جندياً إسرائيلياً في دبابة ورجع سالماً واشترى لنا الحلوى فرحاً بهذه العملية، وبعدها استُشهد في سن السابعة عشر وهو مسؤول عن مجموعة من المرابطين، وقد جاهد بكل أنواع الأسلحة.
10. «منبر الداعيات»: الآن يخوض أهل غزة معركة ما بعد الحرب، وبما أن المرأة جزء من النسيج الاجتماعي الغَزّي: ما المهام الملقاة على عاتقها؟ وكيف تمارس حياتها بعد فقدان الأهل والأحبّة، وبعد انتقالها للعيش في الخِيَم...؟
لقد أثبتت المرأة الفلسطينية خلال هذه الحرب وبعدها أنها قوية قادرة على تحمل النكبات؛ فقد تحملت فعلاً وليس قولاً كل أعباء الجهاد والمقاومة؛ تحمّلت بصبرٍ وثبات آلام وفراق الأحبة وقسوة العيش وما أفرزه الحصار من معاناة شديدة يصعب وصفها. وأستطيع القول إن الظروف التي عاشتها هذه المرأة منذ احتلال فلسطين ومروراً بالمظاهرات والاضطرابات والانتفاضتين حتى يومنا هذا أكسبتها خبرة في التكيُّف مع أقسى الظروف والمواقف الصعبة، وربما كانت نساء الحركة الإسلامية أول وأكثر مَن اكتَويْن بنار الاحتلال، إلا أننا في غزة اليوم نرى صبراً عجيباً وقوة تحمُّل لا نظير لهما.
11. «منبر الداعيات»: كلمة توجِّهينها للمسلمات، وللغربيات.
أقول لأختي المسلمة في كل مكان من العالم الإسلامي: إن لك الدور الأكبر والأمثل في هذه الحياة، أنت أمل الأمة كلها، وعليك يقع العبء الأكبر في تربية جيل النصر القادم إن شاء الله، فاجعلي هَمّ الأمة الهَم الأكبر لديك، ولا تنشغلي بالدنيا وزينتها واللهث وراءها، فديننا وإسلامنا أهم وأعظم، وهو عصمة أمرنا في الدنيا والآخرة، وَجُودي بكل ما تملكين من علم وعمل ومال ووقت وجهد لأجل هذا الدين العظيم، ولا تبخلي حتى بنفسك وبأبنائك وبأغلى ما عندك. فقد أثبتت أختك في فلسطين بكل جدارة أنها على مستوى كل ذلك ولستِ بأقل منها، فمن تربى على الإسلام وعلى موائد القرآن تهون عليه الدنيا بما فيها لأجل الله عز وجل.
أمّا رسالتي للغربيّات، فأقول:
يا نساء الغرب عليكن أن تتحرَّين العدل الذي غاب عن العالم كله في التمييز بين الحق والباطل، وأن تتلمّسن طريق الحق بين الناس وتُفرِّقن بين المعتدي والمعتدى عليه، وبين الضحية والجلاد، وأن تُنْصفن المظلوم حتى لو بكلمة طيبة.
***
وفي الختام، نشكر للأخت المجاهدة أم نضال فرحات هذا اللقاء الطيّب، على أمل أن نلتقي لنصلي معاً في رحاب المسجد الأقصى.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة