المَقارئُ القرآنية الإلكترونية... ما لها وما عليها
كتب بواسطة إعداد: منال المغربي
التاريخ:
فى : تحقيقات
4288 مشاهدة
عُني المسلمون على مَرِّ العصور بالقرآن الكريم حفظاً وتعليماً وخدمة، ومع تطوّر استخدام التقنيات المعاصرة - ومنها الحاسوب - في مجالاتٍ شتى من حياتنا اليومية، كان لا بدّ من تطويعها لخدمة مصدر تشريعنا الإسلامي الأول: القرآن الكريم، وعلومه المختلفة. فعدا ابتكار برامج تخدم القرآن الكريم، وإنشاء مواقع إلكترونية متخصّصة هدفها خدمة كتاب الله عز وجل من خلال المقالات والبحوث والدراسات؛ فقد ظهرت إلى الوجود (مقارىء إلكترونية) وهي عبارة عن مواقع ومنتديات متخصِّصة بتصحيح التلاوة وتحفيظ القرآن الكريم على الإنترنت؛ فما هي سلبيات هذه الطريقة وما هي حسناتها؟ وما الإنجازات التي حققتها حتى الآن؟ وهل أدّت إلى توسيع دائرة نشر القرآن الكريم؟ ولماذا لا تستخدم التقنيات الحديثة - ومنها الإنترنت - حتى الآن إلا في أضيَق نطاق لدى بعض جمعيات التحفيظ؟
كل هذه المحاور وغيرها توقفنا عندها في هذا التحقيق الذي استضفنا فيه:
· الدكتور محمد صالحين: أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة المنيا - مصر، والمشرف على «المدرسة القرآنية العالمية» على الشبكة، وهي موقع إلكتروني تعليمي انطلق في منتصف 2009، وهذه المدرسة تابعة لجمعية تنمية المجتمع ورعاية حفظة القرآن الكريم بمحافظة المنيا بصعيد مصر.
· الشيخ علي الربيعي:خبير عالمي في تطوير المدارك العقلية، ومشرف على «أكاديمية حُفّاظ الوحيَيْن العالمية» للتعليم عن بُعد التي تأسست بداية عام 2004م، وأهم الإنجازات التي حققتها الأكاديمية تخريج 1867 من الحفّاظ والحافظات في مدة لا تتجاوز 20 يوماً للدورة الواحدة، وإقامة مجموعة ضخمة من الدورات المصاحبة في تأهيل المشتركين لحفظ القرآن وحفظ السُّنة.
· الأستاذ وليد عباس:مدير دُور القرآن الكريم التابعة لجمعية الاتحاد الإسلامي في لبنان.
البداية كانت جولة مع آراء العديد من الأخوات المنتسبات لمواقع تحفيظ القرآن الكريم على الإنترنت؛ تقول هدى (عراقية مقيمة في أبو ظبي): اشتركتُ في أحد المواقع الإلكترونية المتخصّصة بحفظ القرآن الكريم لأن الحفظ بالنسبة لي أسهل بهذه الوسيلة، وتزداد البركة بالوقت أكثر لأني لا أكون مضطرة للخروج كل يوم؛ أمامريم (جزائرية الأصل مقيمة في نيوزلندا - عندها طفلان) فتقول: زوجي مَن شجّعني على الاشتراك في هذه المواقع لأنه لا يوجد لدينا مراكز إسلامية، وحتى لو كان لدينا فأعتقد أن حفظي بالبيت مريح أكثر، وبفضل الله تغيرت حياتي كثيراً لأني أصبحت أخصص وقتاً كبيراً للحفظ ولم يعد هناك اتصالات كثيرة أو خروج من المنزل إلا للضرورة، بينما تقول مُنية (متزوجة وعندها ثلاثة أولاد- لبنانية مقيمة في السويد): انتسبت لهذه المواقع بسبب عدم وجود مراكز إسلامية في مكان إقامتي، مضيفة: تغيّرت حياتي كثيراً بفضل الله؛ فلقد تعوّدت على الحفظ كل يوم، حتى حادث السيارة الذي تعرّضت له وأثّر على رأسي وظَهري لم يمنعني من ذلك؛ باختصار، معظم يومي يمضي في حفظ القرآن، كما أنّ علاقتي بالأخوات ممتازة؛ فنحن نتواصل مع بعضنا عبر المواقع الإسلامية. أمانور الهدى (ليبية مقيمة في سويسرا - أُمّ لولد وبنت) فعندما لم تجد في المنطقة التي تعيش فيها أي مركز لتحفيظ القرآن، اشتركت في أَحَد المواقع على الإنترنت، ومن وقتها أصبحت تستغل أوقات فراغها للحفظ، وللسبب نفسه انتسبت أم أيمن (سورية مقيمة في فرنسا) لأكاديمية حفّاظ الوحيين، لأنها كانت تتمنى أن تجد المكان المناسب لتراجع ما تحفظ من القرآن، وتضيف قائلة: تشجعتُ أنا وابنتاي الاثنتان، خصوصاً أنه لا يوجد لدينا مراكز للتحفيظ في جنوب فرنسا، أنا مسرورة جداً وأدعو ربي دائماً أن يتقبّل مني لأني صرتُ أعيش دائماً مع القرآن.
عنالصعوبات التي تواجه المَقارىء الإلكترونية في عملها يقول الشيخ علي الربيعي: تعترضنا مجموعة من الصعوبات منها: كثرة المنتسبين؛ حيث وصل عددهم إلى 56000 من مختلف بقاع الدنيا، وظهر عجزنا عن استيعاب هذه الأعداد الضخمة؛ بحيث أصبح البعض ينتظر مدة طويلة حتى يأتي دوره، ارتفاع التكلفة التشغيلية مما ضغط على الميزانية بشكل كبير، عدم وجود العدد الكافي من المعلمين والمعلمات المؤهَّلين مقارنة بعدد المنتسبين من الطلاب والطالبات، أحياناً تنقطع القاعات الدراسية لأسباب فنية، وأحياناً يسقط السِرفر(server) نتيجة للضغط الكبير من الزوار أو لأسباب تقنية فتتأخر الدورات بعض الشيء. ويضيفالدكتور محمد صالحين: هي صعوبات جَمّة، منها: الأُمية التقنية المتفشية في أوساط المسلمين إلا القليل؛ مما جعل تقبّل الفكرة غاية في الصعوبة سواء من المعلمين أو الدارسين، التكاليف المادية الكبيرة في تصميم الموقع وتحميله وترجمته وصيانته، التعقيدات الروتينية مِن قِبَل الجهات الحكومية من حيث تَلَقّي رسوم الدارسين من خارج مصر؛ مما حدا بنا إلى التفكير في الانفصال إداريّاً عن الجمعية لنكون تابعين لها فقط من حيث الالتزام بدستور المدارس الأرضية، لا من حيثُ التبعية الإدارية، البطء الشديد في التواصل مع الأفراد والهيئات الإسلامية لتقديم الخدمة الأساسية لغير الناطقين باللغة العربية.
وبالنسبة لمسألة مراعاة الضوابط الشرعية فيما يتعلّق بالجنسين، بالإضافة إلى التقيّد بالنظام وبالبرنامج المحدد سواء للطلاب والطالبات أو المقرئين قال الشيخ علي الربيعي: بالنسبة لنا في «أكاديمية حفاظ الوحيَيْن العالمية» تتمّ الدراسة بخصوصية تامة وبراحة كاملة؛ فالطالبة تدخل القاعة الدراسية عن بُعد باستخدام الرقم السري، ولا يُعطى لها إلا بعد التأكّد التام من شخصيتها، وبأنها مقبولة وتم اختبارها وسماع صوتها من قِبَل المشرفة المسؤولة، ويُشترط على الطالبة قبل قَبولها أن يكون معها مايك (mike) وسمّاعة أذن، ولا يُسمح لها باستخدام السمّاعات العادية في بيتها، فقد يسمع مَن حولها أصوات الطالبات وقت مشاركاتهن أو تسميعهن، كما أنها تُقسِم اليمين على ذلك قبل دخولها القاعة. أما عن التقيّد بالنظام والبرنامج فهو دقيق ومحكم؛ عانينا كثيراً حتى تم الوصول به إلى هذه المرحلة المتقدِّمة، ولا زلنا حتى الآن نطوّر النظام كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. واعتبر الدكتور محمد صالحين أنّ المشكلة في المدارس التقليدية أكبر؛ نظراً للاحتكاك المباشر ومحدودية المساحات المتاحة، أما بالنسبة للمواقع الإلكترونية فمن اليسير توفير معلمات للطالبات ومعلمين للطلاب، والغرفة القرآنية لا يُسمح بدخولها إلا لمن يحمل تصريحاً خاصّاً، معلمة كانت أو دارسة أو مشرفة.
وحول إن كانت المَقرأة الإلكترونية (التحفيظ وتصحيح التلاوة عن بُعد) تُجزىء عن التلقين المباشر يقول الشيخ علي الربيعي: لا تكاد توجد فروقات تُذكر بين التعليم عن بُعد والتعليم الواقعي؛ فأهم جانب فيمسألة التلقين هي السماع، والسماع عن بُعد كالسماع الواقعي تماماً؛ فالمعلم يستمع حيثما كان، وكأنه بجانب طلابه ولا تُشترط الرؤية؛ إذ من المعلوم أن بعض علماء القرآن من المكفوفين ويؤدّون رسالتهم على أكمل وجه؛ إذن السماع هو أهم جزء بين المتلقي والمعلم؛ ولذلك فَهُو يُجزىء تماماً عن التلقين الواقعي، ورغم أن إمكانية الرؤية عن بُعد متاحة لدينا، لكننا لا نحتاج إليها. ويعلّق الدكتور محمد صالحين بقوله: إن هذه الطريقة خطٌّ موازٍ للطريقة التقليدية، ثم إنّ التلقي التقني ليس عن بُعد بالمعنى الحرفي للكلمة؛ إذ من الممكن التواصل بين المعلمة والطالبات بالكاميرا، وبالتالي يكون التلقين مباشراً بالصوت والصورة؛ فقد يسّرنا لطالبة في شيكاغو أن تتلقى عن معلمة مجازة في دمشق، وهذا خير عظيم من وجهة نظري. ولكن الأستاذ وليد عباس كان له رأي مغايِر، فقال: المَقرأة الإلكترونية لا تُجزىء عن التلقين المباشر، وذلك لأسباب عديدة أبرزها يعلمه أهل الاختصاص في الشبكة العنكبوتية؛ فتلقائياً تُحذف كميات من الصوت والصورة أثناء عملية النقل وذلك لتسهيلها من جهة ولتسريعها من جهة أخرى؛ وبهذا نخسر نحن جزءً من الصوت والصورة مع عدم الملاحظة من قِبَل السامع والرائي لهذه الخسارة التي حصلت، فمن هنا يمكن أن تمرّ أمور دقيقة ومهمة جداً من غير أن ينتبه إليها القارىء والمقرىء، وهناك أمور أخرى منها: معرفة الشيخ بأخلاق وسلوك وطباع الطالب، وكذلك ما يأخذه الطالب من شيخه من سَمْت وأدب وعلم وتوجيه وغيرها... كما كان السلف الصالح رضوان الله عنهم أجمعين.
ما الذي حقّقته المقارىء الإلكترونية وقصّرت فيه المقارىء التقليدية الموجودة في كل أنحاء العالم؟يجيبالشيخ علي الربيعيقائلاً:
المَقارئ عن بُعد لها مميزات عدة لا توجد في المقارئ الواقعية، منها: سهولة التواصل بين الطالب والمعلِّم كلٌّ في بيته، سهولة التعلم والتواصل مع المتخصصين والمؤهلين والبارعين من بلدان شتى، رفع الحرج عن المرأة؛ فهي تتعلم وهي في بيتها وبين أهلها ولا تحتاج للخروج من منزلها، عدم تحرُّج الرجال والنساء من الذهاب إلى حلقات التحفيظ، بسبب ما انطبع في أذهان الكثير أن التحفيظ خاص بالأطفال فيمتنعون من الذهاب إلى المسجد أو إلى دور التحفيظ. ولقد وافقالدكتور محمد صالحينعلى كثير مما ذكره الشيخ علي الربيعي مضيفاً: التغلّب على تضارب المواعيد بين الأنشطة الحيوية اليومية وبين التوفيق في المواظبة على مواعيد نهارية أو مسائية للحلقات الأرضية، وإمكانية التعلم في أي وقت على مدار اليوم والليلة طوال أيام الأسبوع، ذوبان الفوارق الجغرافية المتباعدة؛ فالكون المعروف لنا أصبح بحجم مربَّع الحوار الذي يشغل حيِّزاً قليلاً من شاشة الحاسوب المحمول الصغير!!!، تقليل نفقات الدراسة، وتوفير أوقات التنقل.
ويركّزمدير دور القرآن الكريم في لبنان الأستاذ وليد عباس على نقطة مهمة قائلاً: إنّ مَقارىء التحفيظ وتصحيح التلاوة عن بُعد جيدة بالنسبة للبلدان التي لا يوجد فيها مراكز وشيوخ بسبب بُعد المسافة أو الانشغال بأمور ضرورية، أما من أراد التخصّص في هذا المجال فلا بدّ له من القراءة على الشيوخ أهل الاختصاص بالتلقين المباشر، وننصح أن لا يُعطي مقرىءُ الشبكة العنكبوتية أو الهاتف إجازةً بالسند المتصل إلى حضرة النبي محمد (ص)؛ وذلك لأنه لم يحقّق شروطها المعتبَرة عند أئمة القرّاء.
وفي الوقت الذي أكّد فيه الدكتور محمد صالحين على أن المواقع الأرضية ستبقى هي الأصل، والمواقع الإلكترونية وسائل مساعِدة وليست بديلاً أبدًا، علّق الشيخ علي الربيعي قائلاً: نرى أن هناك تكاملاً بين المقارئ التقليدية والإلكترونية فكل واحدة تؤدي دورها، وما لم تتطورْ المقارئ التقليدية وتقدِّمْ تقنيات وإبداعات ومهارات مبتكرة وتتخلَّ عن بعض الروتين المعروف فيها، فقد تطغى المَقارئ الإلكترونية وتهيمن على الساحة، لكن لا أظن أنها ستسحب البساط من المقارئ التقليدية بشكل كامل؛ فلكل واحدة روّادها ومُحِبّوها.
وعلّل الأستاذ وليد عباس سبب ضيق نطاق استخدام الإنترنت لدى بعض جمعيات التحفيظ بِعَدَم رغبة البعض في الخوض في هذا الجانب للالتباس الحاصل في أهلية التلقين عبر الشبكة العنكبوتية، وإلى حالة الفوضى التي أصبحت تسود منح الإجازات عبر هذه الوسائل من غير ضوابط حتى يستبين الأمر وتصبح الرؤية الشرعية واضحة فيه، كما أنّ التكلفة المادية والبشرية والتقنية تقف حائلاً؛ إذ أنّ مشروعاً كهذا يحتاج إلى تكلفة ليست بالقليلة، مضيفاً: ليست لدينا خطة لفتح مواقع تحفيظ عبر الغرف المعروفة للتواصل، ولكن لدينا خطة لفتح موقع تحت اسم (ملتقى الحفّاظ) يتم التعارف من خلاله بين الحفّاظ داخل البلد وخارجه، وتتم من خلاله مناقشة أمور علمية هادفة ودقيقة والإجابة عن أسئلة الطلاب وحلّ مشكلاتهم عبر التواصل مع قرّاء العالم الإسلامي؛ باختصار نطمح أن يكون هذا الموقع ملتقى للحوار والنقاش والتأصيل في المسائل العلمية بين الشيوخ وطلابهم وجمع الأسانيد والإجازات وغيرها ممّا يخدم مشروع القرآن الكريم، وأما مسألة الإقراء فلا مانع منها بحدود المصلحة التي ذكرناها سابقاً إن وجدنا حاجة ضرورية لها، وهذه تقدّر بقدرها.
* * *
ختاماً، لا شك أن فكرة إقامة حلقات إلكترونية لتحفيظ القرآن الكريم وتصحيح تلاوته تعتبر وسيلة تعليمية مساعِدة ومكمِّلة لدور التحفيظ؛ وقد لاقت القَبول والاستحسان من الكثير من الناس خصوصاً لمن يفتقدون مراكز إسلامية في بلدان إقامتهم، ولكن وجود بعض المؤشِّرات والدلائل التي تطرّقنا إليها في التحقيق يؤكّد على أن هذه التجربة ما زالت بحاجة لمزيد من الدراسة حتى تحقّق غاياتها وأهدافها، وتتويجاً لهذه الجهود البارزة في مجال العناية بالقرآن الكريم على الإنترنت يتم تنظيم مؤتمرات وندوات متخصِّصة في مجال القرآن وعلومه، آخرها «ندوة القرآن الكريم والتقنيات المعاصرة» التي أقيمت بمجّمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف (24-26 شوال 1430 = 13-15 ت1/2009 م) التي دُعيت إليها ثلّة من المتخصّصين في مجال الحاسوب والمعلومات(1)؛ آملين أن تنعكس نتائجها وما يدور فيها من بحوث ومناقشات لصالح خدمة القرآن الكريم وأهله، شاكرين ضيوفنا الأكارم من حفّاظ وحافظات وشيوخ ومسؤولين على هذه الإفادة، راجين الله أن تتكاتف الجهود لإحياء معاني القرآن الكريم في الأمة الإسلامية فتعيه القلوب وتترجمه الجوارح واقعاً عملياً مشهوداً؛ إذ الحفظ ليس مطلوباً بذاته وإنما هو وسيلة تعبدية تُبقي الكلمات في الذاكرة حتى إذا ما اقتَرن بالتدبر استحالت الكلمات في أصحابها قرآناً يمشي على الأرض، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة