بربِّك... لا بنفسك
الاستعانة بالله تبارك وتعالى، حبل متين وحِصن منيع، وعبادة الله لا تتم إلا بالاستعانة به، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه؛ ففي كل صلاة من صلاتنا، وكل ركعة من ركعاتنا نتعبّد له ونستعين به فنقول له: {إياك نعبد وإياك نستعين}.
ومن أجل أن يظل المؤمن على صلة بخالقه وبارئه، ورازقه وواهبه، ومن أجل أن لا يتّكل المؤمن على نفسه، ولا يَغْتَرَّ بقوّته، يطلب منه النبي صلى الله عليه وسلّم أن يستعينَ بالله وحده؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعجِز...» وقال صلى الله عليه وسلّم لابن عباس أيضاً: «إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله...».
فالعبد المؤمن حين يستعين بالله، ويفوِّض أمره إليه، ويُحسن الرجاء فيه، ويفتقر بين يديه، فإنّ اللهَ لا يخيِّب أمله، ولا يضيِّع عمله. وفي ذلك يقول ابن عطاء الله: «ما توقف مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك»...
هذه الحكمة العظيمة تذكرنا بقوله تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى اللهِ واللهُ هو الغنيّ الحميد}... إنّ أشرف صفات العبد افتقاره إلى الله تعالى في كل شيء، كما أن أشرف صفات الرب استغناؤه عن العبد في كل شيء، فالعبد بحاجة إلى ربه بأبسط أموره وأهون أحواله، لأنه عاجز عن جلب مصالحه ودفع مضارّه، ولا معين له على ذلك إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومَن خذله الله فهو المخذول. ومَن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكَلَهُ الله إلى مَن استعان به فصار مخذولاً.
فمن أراد أن تُقضى له حوائجه فليطلبها من الله، ولا يطلبها بنفسه لأنه إذا طلبها من الله تيسّر أمرها، وسهل قضاؤها، وإنْ طلبها بنفسه معتمداً على حَوْله وقوّته أو ذكائه ومهاراته، ناسياً يد الله وفضله الذي يغمره، صَعُب قضاؤها وتعسّر أمرها، وخاب سعيُه وضاع، ولا يبوء إلا بالذل والخسران.
فما صدق أحد مع ربه وفوّض أمره إليه إلا أعانه على الخير وشرح صدره ويسّر أمره، فيمضي في طريقه واثقاً مطمئناً بالله بلا حيرة ولا قلق ولا اضطراب، ولا سُخط ولا قنوط.. يمضي وهو على ثقة بِحُسْنِ نهايته {ومَن يتَّقِ اللهَ يجعلْ له مِن أمرِه يُسراً}.
ومن عرف الله لم يغترّ بنفسه! ومن استعان بالله لا يعرف الذل أبداً! ومن كان مع الله لا يَضْعُف ولا يحزن، ولا يجزع ولا يضيع! وقد قيل: مِن وثق بالله أغناه الله، ومن توكل عليه كفاه، ومن خافه قَلّت مخافته، ومن عرفه تمت معرفته...
وقد كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: «لا تستعن بغير الله فيَكِلك الله إليه...»، وقال أحد السلف: «يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك! يا رب عَجِبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك؟!».
فالإنسان الذي لم يهذِّبه الإيمان يفقد الثقة بالله ويغترّ بنفسه العاجزة الضعيفة، ولا يستعين بالله ولا يتوكل عليه.. يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رضية، وكل طمأنينة وسَكينة، وكل توفيق وعَوْن من الله. فما أُعجب أحد بنفسه هلك!
فما أقبح مَن نسي الله! وما أشقى من تكبّر على الله! فهو لا يحصد إلا المرارة والندامة، والشقاء والضياع.
وما أجمل أن يعيش المؤمن في معية الله، فهو وحده إذا دعاه أجابه، وإذا سأله أعطاه، وإذا استعان به أعانه، وإذا استغفره غفر له.. وإذا سأل غيره غضب منه!
أختي المسلمة: استعيني بالله في أموركِ فهو حسبكِ وكافيك ومؤيدك، استعيني على ذِكره وشكره وحُسْن عبادته. ولا تغترّي بنفسك فتنسَيْ ربك، وإذا نسيتِ ربك أغلق الباب دونك فكان فيه هوانك، قال طاووس: (يا عطاء، إياك أن ترفع حوائجك إلى مَن أغلق دونك بابه، وعليك بطلب حوائجك ممّن بابه مفتوح لك إلى يوم القيامة).
ألا تريدين - أيتها الأخت الكريمة - أن تفوزي بكنزٍ من كنوز الجنة؟ فاسمعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبي موسى الأشعري: «ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنة؟ «قال: بلى يا رسول الله، قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله».
استعيني بالله بها جِدّاً لا هزلاً، صدقاً لا كذباً، إخلاصاً لا رياءً. بهذه الحقائق تحلو الحياة وتُزهر، بها تطمئن النفس وتسكن. ولنستعن بالله على تقوية صلتنا به ونحن على أبواب شهرٍ عظيم بخيراته وبركاته ونفحاته، فلنستعدّ له من الآن ولنتزوّد له ونحن في زيادة لا في نقصان، تطهيراً للقلوب وتنقيةً من الذنوب وتقرباً إلى علّام الغيوب.
فيا مالك يوم الدين {إياك نعبد وإياك نستعين..} وأنت حسبنا ونِعم الوكيل، وأنت حولنا وقوتنا، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك يا عظيم، نسألك أن تمنّ علينا بنصرٍ قريب، تشفي به صدور قومٍ مؤمنين، وتُذِل به أعداء الدين من الطغاة المجرمين الظالمين وأذنابهم من المنافقين المتخاذلين.
فبِكَ نستقوي، وبِكَ نستنصر، وبِكَ نستعين، وعليك نتوكل: {ربّنا عليكَ توكّلنا وإليكَ أنبنا وإليكَ المصير}.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن