في صحبة عملاق
كلّما رأيتُ إنساناً حوى قلبُهُ مروجَ الحبّ والخير، وفكرُهُ سهول الهدى والعلم، سألتُ نفسي: ترى، ما الذي يجعل الإنسان عملاقاً؟! وكيف يتحوّل الجسم الضعيف إلى جبلٍ نوراني يضيء جنبات الدنيا؟! وهل يتمدّد جسدُ العملاق ليسدَّ الأفق بشحمه ولحمه، أم أنّ الرّوح الوثابة المشرقة تملأ العيون بذلك الضياء المتوهّج الباهر؟ وهل حياةُ العملاقِ كحياتنا، ووقته كوقتنا؟!
كنتُ في كلّ مرةٍ أحاول أن أُجيب عن تلك الأسئلة من وحي من أتعرّف عليهم أو أقرأ لهم من ذلك الصنف النادر العجيب، لكنني في تلك الزيارة عاينتُ ملامح «العملاق» بكلّ أبعادها...
أجل، قرّاءنا الأكارم، برهة من الزمن – وكأنها من غير هذا الزمن – عشتها مع عملاقٍ حقيقي، سمعته يتحدّث عن الأمسِ الذي كان فيه وتداً صلباً في وجهِ الطغاة، وجبلاً شامخاً تتكسَّر على سفحه سهام الظلم والعدوان، وقلعةً صامدةً لم تخترقها رماح الشكّ أو التردّد...
وأنصتُّ إليه وهو يسدي إلى الدعاةِ كلماتٍ من لؤلؤ ومرجان، لا أعلمُ، أهي الغاليات، أم أنّ الفم الذي خرجت منه قد أفاض عليها هذا القَدْر وألبسها ثوب العظمة؟!
جلستُ في حضرته أستمعُ بكل جوارحي خشية أن تفوتني جوهرةٌ من بحرِ علمه الزاخر...
ولم لا، وهو الذي امتزجت روحه بكلمةِ التوحيد، حتى تخلّلت عقيدةً في قلبه، وأثمرت انقياداً للشريعة، وصارت له منهج حياة؟!
وهو الذي اقتبس من سيرةِ الرسول صلى الله عليه وسلم قبساتٍ نسج منها سبيل النجاة، واقتفى بها أثر الطمأنينة والسعادة؟!
رُحْتُ أتساءل - وأنا في مجلسه - عن مصدر تلك الفتوحات النظرية والقواعد الحركية والفِراسة النفسية، والأجوبة الذكية!!
في ذلك اللقاء، رأيتُ عملاقاً قد اكتسى بردةِ العبودية والخضوع لله، ولبس ثوب التواضع والأدب مع عبادِ الله...
شاهدتُ عملاقاً قد سَبَر فكرُهُ أغوار النفس الإنسانية، فصاغ منهجاً ربّانياً للتربية الإسلامية، وحطّم فيه ما ساد من تعاليم الجاهلية... وأدار معركة التقاليد البالية، وصوّب مغالطاتٍ سائدة، وصال وجال في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر...
قد آتاه الله الحكمةَ مع الإيجاز... والسداد مع الإنجاز...
لكأنّه قاعدٌ على جبلٍ يراقبُ أحوال الناس من عَلٍ... فيقوّم هذا... ويصيب... ويشير على ذاك... فيتقن... وينصح ذلك... فيحسن...
طُلب منه أن يقدّم نصيحة للعاملين في مجال الدعوة إلى الله، فأكّد أن موافقة عمل الداعية علمه هو المحك الأساس الذي عليه مدار التأثير وإحداث التغيير، ثم توقف عند الشفافية وسرعة البديهة في اكتشاف نقاط قوة المدعو وحسن استثمارها، ونقاط ضعفه والحكمة في معالجتها، وركّز على ضرورة تحلي الداعية بالهمة العالية والنفس التواقة وسعة الصدر والرحمة والحلم، ليمارس عملية التربية بذكاء وعاطفة، مشيراً إلى أنها عملية مستمرة في تنمية مشاعر المدعوين وتوجيهها نحو الحق، مع تفعيل سلوكهم وأدائهم وتقويمه وتطويره المترافق مع الاستيعاب الدقيق للشخصيات المتفاوتة، والتفهم العميق للطباع المختلفة...
قراءنا الكرام، إنه لا أسمى من الأحاسيس التي تعتري جليس «العملاق»، ولا أرقى وأبلغ من الآثار التي يتركها سمته وكلامه... جلّ ربنا في علاه، ما أكرمه وأجوَده إذ جعل بين الناس «عمالقة» يحيون القلوب بالحكمة كما يحيي وابل المطر الأرض الجدباء! وله الحمد والمنة إذ تفضل علينا بأناس إذا رؤوا ذُكر الله، وإذا تكلموا دلّوا عليه...
إنه العملاق الإسلامي، الداعية الرباني، المفكر محمد قطب حفظه الله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة