حميدة... هل ترانا نلتقي؟
التاريخ:
فى : بوح الخاطر
2043 مشاهدة
في دروب الحياة تصادفنا نماذج تعطي لهذا العالم بُعده القيمي، فتكسر حدّة الأثَرة والأنانية والجُبن التي أُقحمت في أساليب ومناهج التربية الحديثة فعشّشت في قلوب وعقول الكثيرين من أبناء هذه الأمة إلا مَن رحم الله...
من تلك النماذج امرأة بالكثير من الرجال... أحسبها بقيّة زمن العمالقة... إنها الأخت الداعية المجاهدة الصابرة شقيقة المفكر العملاق الشهيد سيد قطب رحمه الله والأستاذ المفكر محمد حفظه الله وشقيقة المجاهدة أمينة رحمها الله...
إنها حميدة قطب... «عذراء السجن الحربي» (كما وصفتها الكاتبة مريم هنداوي)... التي ننعاها ببالغ الحزن والأسى مع الرضا والتسليم بقضاء الله...
فقد آن لذلك الجسد المنهَك أن يجد راحته... بل آن لتلك النفس الوضيئة أن تحلّق في السماء... بعد طول انتظار...
جمعتني بها أخوّة صادقة صافية شفافة، ومحبة في الله لا يدرك كنهها كثير من الناس...
تعارفت أرواحنا من خلال منبر الداعيات... فتواصلنا...
ومضت السنوات ونحن على ذلك...
تبثّني أشواقها للقائي وكذلك أفعل...
وكم من مرة قررتْ فيها المجيء إلى بيروت ولكن المرض كان يقف لها فيحول دون التلاقي...
فتعود وتقول: كما تلاقت أرواحنا في الدنيا... أسأل الله تعالى أن نلتقي في الجنة. وكذلك فعل زوجها الأخ الفاضل د. حمدي مسعود* الذي بادرني باللهجة المصرية عندما اتصلتُ به معزّية: «كان نِفسَها تشوفك... تلتقيان في الجنة بإذن الله»، فيتردد في حنايا قلبي قول الشاعر:
مولانا يا رجانــا مَن فيكَ الحبُّ كانا
إنْ عَزّ هنا لقانا فاجعله لنا الجنـانا
في رسالة خاصة طويلة جداً وجهتها لي بتاريخ 22 رجب 1424 الموافق له 18 أيلول 2003 أنقل المقاطع التالية:
«أختي الحبيبة سهاد... فإني قد أذِنتُ لنفسي أن أُزيل جميع الحواجز وأن أتخطى كل الرسميات في هذه الرسالة إليك؛ رغم أنها أول رسالة مني إليك.. فمعذرة! ذلك يا أختي الحبيبة أني حين أتحدث إلى مَن أحببت في الله فإني أتحدث بصدق القلب... وقد أحبك هذا القلب.. وأحبكم كلكم.. وأحب حتى وريقات هذه المجلة التي التقيتُ بكم من خلالها.. أختي الحبيبة.. وعلى غير تعارف بالأجساد أدعوك بهذا الدعاء الأثير عندي من أعماق قلبي.. وهل يحتاج المسلمون إلى تعارف بالأجساد لتتلاقى القلوب؟ وهم الذين قال الله سبحانه فيهم: {وألّف بين قلوبهم لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما ألّفتَ بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم}؟...
أختي الحبيبة... تصلنا مجلتكم العزيزة بانتظام، وهو تَفضُّل كريم منكم... نقرؤها، الشقيقة أمينة وأنا، من الغلاف إلى الغلاف في شَغَف... نسمعها تتحدث في افتتاحياتها ومقالاتها الموجهة إلى من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بوعي يقظ، منبثق من رؤية إسلامية واعية ناصعة.. لم تتلوث بانحرافات الواقع الضال، ولم تحاول أن تشق لها طريقاً وسطاً بين هذا وذاك، ذلك الذي يسمّى الآن بالوسطية! هذا يا أختي ليس بالقليل في هذا الزمن الكالح الذي تعيش فيه الأمة من التيه...
ثم يا أختاه فإن في قلوبنا أمنيّة تدعو الله أن يجعل لنا لقاءً حياً كاملاً، أشمل من لقاء القلوب وأوسع من لقاء الكلمات في الرسائل، فنفوسنا توّاقة إلى أحاديث طِوال لا تملك الوريقات المحدودة أن تحملها، فلعل الله أن ييسرها لنا، هنا في هذا البلد أو هناك أو هناك، فأرض الله واسعة...».
وقد كان مما أجبتُها به:
«أختي الكريمة، استلمتُ رسالتكِ الغالية بحُبورٍ بالغ، فجزاكِ الله خيراً.
وبعد، فإنه شرفٌ عظيمٌ لي أن تُلغي جميع الحواجز وتتخطَّي كل الرسميات، فالأخوّة الصادقة - كما أسلفتِ - لا تحتاج إلى أوراق عبور، إنها كنسائم الربيع تَنفُذ إلى قلوبنا دون استئذان فتملؤها حمداً وشكراً لله على ما أنعم به عليها من تآلف على غير ما تعارف.
أختي الكريمة، قرأتُ رسالتكِ فبكيت تأثُّراً بتلك الكلمات الصادقة التي خرجت من القلب فدخلت فيه، لقد نقلتْني كلماتك إلى ذلك الزمن الذي عاشه غيري واقعاً مشهوداً وعِشتُه من خلال الكتب والمحاضرات؛ زمن المحنة، ذلك الزمان الذي تصدى له شقيقكِ سيد قطب بفكره العملاق رحمه الله تعالى... كلماتكِ - أختي الحبيبة - كانت نفحات من عَبَق الماضي القريب، فما إن أنهيتُ قراءتي للرسالة حتى قلتُ: سبحان الله، كأنَّ (سيد) يتكلم.
شهادةٌ كريمة نعتزّ بها تلك التي قدّمتِها للمجلة، وما الرؤية التي ننطلق منها إلا قبسٌ من تلك المدرسة التي تربّينا فيها جميعاً، ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن نلقاه ثابتين على نهجها...
أختي الكريمة، إن حقيقة مشاعري أكبر وأعمق من أن أخطّها على ورق، ذلك أن المحبة الصادقة في الله أصبحت عملة نادرة يصعب الحصول عليها، فأقول لكِ: أحبَّكِ الذي أحببتني فيه، وأسأل الله تعالى أن يُديم الودّ وأن يُيسِّر اللقاء، فإنْ تعذَّر ذلك في الدنيا فموعدنا بإذن الله تحت عرش الرحمن. وفي الختام، أطلب منكِ ومن الأخت أمينة الدعاء، وأُلِحُّ في الطلب...».
رحمهما الله رحمة واسعة وأجزل لهما المثوبة عن جميع المسلمين...
هذه عيِّنة مما كان بيننا... نشرتُ ما اعتبرتُه خاصاً وقد بقي لسنوات حبيس الورقات والحواسيب لأعلن بأن أمثال هذه «النجمات» مَن تتشرف المسلمة بصحبتهن ومَن يجدر بها الاقتداء بهن لإعادة إنتاج مثل تلك النماذج من جديد... وعليه فإنني أتشرّف بأن تكون لي علاقة وجدانية وصحبة روحية مع مجاهدة من زمن العمالقة... مع شقيقة صاحب الظلال... وإلا فأين أنا من تلك النخلة الباسقة والصخرة الشماء التي تكسّرت عندها كل محاولات التركيع وكسر الإرادة وإماتة الروح التي مارسها الطاغية عليها وعلى سائر أفراد عائلتها الكريمة؟
رحم الله الأخت الفاضلة والداعية المجاهدة حميدة قطب وأسعد روحها ورفع مقامها، وجمعنا وإياها في الفردوس الأعلى مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن