ويَكْفُرْنَ العشير...
كان المثل القديم يقول: "من ليس عنده كبير فلْيَشْترِ كبيراً" واليوم بعد التغيرات الاجتماعية، والبعد عن القيم الدينية، افتقد المسِنُّ راحته، وبات يعيش القلق والخوف في آخر أيام عمره.
أتى متهالك القوى محبطاً مع زوجة مستاءة تريد إسكاته.
أختاه تمهلي... يكلمنا عن همومه، وما الضَّير في ذلك، فنحن هنا لننفّس كربكما ولنستمع لشكواكما!!
لا.. لا أستطيع.. اسمعيني يا سيدتي الفاضلة: منذ تقاعد زوجي وكلامه هراء يفيض به بسخاء، ولا يعرف إلا الافتراء، ويطلب منا أن نجالسه ليل نهار، وإلا يهددنا بالخروج إلى المقهى حيث يُنفِق ما نعطيه من مال على الأصدقاء وبسخاء، وينزعج من الأحفاد إن حضروا!! تصرفاته صبيانية تسبب للجميع الشقاء، والغريب أنه يُصِرُّ على ضرورة زيارة أولاده له؛ وهو الذي يصرخ بأبنائهم وينزعج من حركاتهم، هو يريد كسب عطف أولاده... وتذكيرهم بضعفه الدائم لكي يستمروا في خدمته، ويُصِرّ على الاحتفاظ بالنقود التي يكرمها به أولاده ويقفل عليها بالأغلال، ولا يهمه إن لم ترُقْ لنا هذه الحال.
وعندما حاول أن يتدخل لتصحيح بعض ما ترويه عنه أو لتبرير بعض الأفعال كانت ترفع صوتها وتقول: "أسكت أنت (مت.. قاعد) وكأنها تقصدها -كيد النساء عظيم -لا تعرف إلا البحث عن مصلحتك وعن راحتك، لقد تغيرت الأوضاع، ولا زلت تحشر أنفك للاستفسار، وتظن نفسك دوماً جديراً بإصدار القرار؛ ولو كان سيحرِف المسار.
طلبنا منها بحزم مجبول باللّطف أن تعطيه الحق في الكلام قائلين لها: نراك تتصرفين تصرف اللئام!! أنسيت حنان السنين الذي أغدقه عليكم... وكم استمديتم منه لمسات حنان في الأيام العصيبة حيث أعادت إليكم العزم والقوة... والآن حين أصبح في أشد الحاجة إليها تنفرون منه!! فالزوجة الحنون تبدد مخاوف زوجها من العزلة القاسية بعد تغيير نمط حياته، وتحرص أن لا تجعله عبئاً بعد أن كان سنداً.
يجفف دمعه بمنديله ويقول: لو تركتْ ليَ المجال لأثبت لكُنَّ حُسن صنيعي طوال فترة عملي لذهلتنّ!! أُشهد اللَّه أنه لم يمرّ علي يوم دون عمل إلا في العطل الرسمية، كنت أتقاضى راتبي وأسلمه لها مبللاً بعرق جبيني... علّمت أولادي في أرقى المدارس، وأدخلتهم جامعات حققوا فيها أحلى النجاحات، كنت أختار لهم أجمل الأماكن في الإجازات لنقضي معاً أجمل الأوقات، ولا أتوانى حتى عن تقديم أصغر الكماليات، وحين طلبتُ منهم أن أشتري (نمرة) لسيارتي كي أعمل عليها بعد التقاعد.
قالت: لا يحق لك التفريط بما ادّخرناه، فهذا المال للأيام العصيبة. وهي تتغافل أن ما أفعله من ضيقي؛ لأني أَمرُّ بأوقات عصيبة، ويشعرون تواجدي بينهم مصيبة!!
عجباً منك أيتها الزوجة! لِمَ لا تتفهمي وضعه وتنظري إلى مزاياه بدل النظر إلى عيوبه... لقد استنفذ طاقاته لأجلكم ولتأمين مستلزماتكم.
يا أم البنين والبنات اطردي الشيطان، وعيشي أنت وزوجك بعد مشوار العمر في جوٍّ من الرحمات، وتذكري من كتاب اللَّه جمال الآيات:
(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).
الوجه الآخر
أجريت حواراً مع سيدة فاضلة تقاعد زوجها، لكنها تعيش بسلامٍ بعيداً عن المنغّصات، متلافيةً العثرات.
- سيدتي الفاضلة نودُّ أن تشاركينا بعض التفاصيل التي جعلتك أنت وزوجك في المرحلة الثالثة من العمر تعيشان بعيداً عن المنغّصات.
• التقاعد أمر واقع في القانون، وليس لأحد الحق أن يتجاوزه، فلا بد للعقل أن يعمل بإيجابية ويتهيأ لهذا الأمر الحتمي من مخزون الحديث الشريف لرسولنا صلوات اللَّه عليه: "لو قامتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فَسِيلٌ فَلْيَغْرسْه" حثّنا على العمل إلى آخر لحظة من العمر، هكذا شعرت أن اللَّه أعطاني صحة لأُحسن الاستفادة منها، وأزداد أجراً بحسن تعاملي مع من كان شريك حياتي؛ بدل التقوقع والعزلة، وكان التسهيل من رب العالمين.
- سيدتي أخبرينا كيف خططتما لهذه المرحلة التي عادة تصادفها الكثير من العقبات واختلاف الآراء من أفراد الأسرة؟
• توكلنا على اللَّه واشترينا من مدخراتنا محلاً جاهزاً بديكوراته (لبيع المسابح الثمينة، والساعات القيّمة). وأحب أن أخبرك أنَّ الفكرة كانت نتاج حوارنا مع ابننا الذي يعمل في سويسرا؛ لأنه له دراية بالموضوع، ويستطيع أن يُؤَمِّن لنا الساعات مع الكفالات من الشركات.
- وهل زوجك له دراية بهذه المهنة؟
• سؤالك محق أحب أن أخبرك أن الموظف الذي اخترناه أمين وخبير بتصليح الساعات - عصفورَين بحجر واحد - السنين يا صديقتي العزيزة تعطي الإنسان وفرة من الخبرة، والحاج ينظر للأمور من الوجه الإيجابي. حين أحيل إلى التقاعد كان يقول ضاحكاً: "لقد أطلق سراحي" ليعطي لروحه مساحة لتنطلق من جديد.
- أختنا الغالية هل استقبال الأولاد والأحفاد ضمن ترتيباتكما؟
• بالتأكيد نحن نحب اللّمة الأسرية، لقد خصّصنا لهم يوماً في الأسبوع -يوم عطلتهم -نهيّء لهم الأجواء ونحضر لهم الأطايب والمأكولات، ونسعد بثمار عمرنا الزكية التي وهبنا اللَّه إياها، ونشكر الخالق والرزاق على ما أكرمنا.
وهكذا بالتقى والتفاهم والود تسود السكينة ويكثر الحمد وتبقى البيوت عامرة، حتى نغادر هذه الدنيا بنفوس طاهرة تُذكَر بالخير
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة