شهر الخيرات
كتب بواسطة د. محمد راتب النابلسي
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
36508 مشاهدة
إنَّ الله جلَّ جلاله قد امتن على عباده بموسم الخيرات، فيها تُضاعف الحسنات، وتُمحى السيئات، وتُرفع الدرجات، تتوجه فيها نفوس المؤمنين إلى مولاها.
ومن أعظم العبادات الصيام الذي فرضه على العباد فقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ورغَّبهم فيه فقال: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، فلا عجب أن تُقبِل قلــوبُ المؤمنين في هذا الشهر على ربهم الرحيم، يخافونه من فوقهم، ويرجون ثوابه، ويخشون عقابه.
الإخلاص أظهرُ في الصيام من غيره بين العبادات؛ فإنه سرٌّ بين العبد وبين ربه، لا يطَّلعُ عليه غيره، إذ بإمكان الصائم أن يأكل ويشرب متخفِّيًا عن الناس، فإذا حفظ صيامَه عن المفطرات ومنقصات الأجر دلَّ ذلك على كمال إخلاصه لربه، وإحسانه العملَ ابتغاء وجهه، ولذا يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: «يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي».
والصيام جُنَّة؛ يقي الصائمَ ما يضرُّه من الشهوات، ويجنِّبه من الآثام التي تجعل صاحبها عُرْضةً لعذاب النار، وتورثه الشقاءَ في الدنيا والآخرة، وكان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يوصي الشَّباب: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» رواه البخاري.
من فضائل الصوم أنه من أسباب استجابة الدعاء، ولعلَّ في قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
مما تنبِّه هذه الآية عليه تلك الصلة الوثيقة بين الصيام وإجابة الدعاء.
ومن فضائل الصوم أنه من أسباب تكفير الذنوب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» صحيح مسلم.
ومن فضائل الصوم أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهـــَار،ِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ» مسند الإمام أحمد.
ومن فضائل الصيام أن الله اختص أهله بابًا من أبواب الجنة؛ لا يدخل منه سواهم فينادون منه يوم القيامة إكرامًا لهم، وإظهارًا لشرفهم، كما في الصحيحين عَنْ سَهْلٍ ] عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ، فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ». (صحيح البخاري).
فلننظر كيف يُقابَل عطش الصُّوام في الدنيا بباب الريّان في الجنة في يوم يكثر فيه العطش.
شهر رمضان شهر الصبر، فالبناء الأخلاقي أساسه الصبر، ويتجلَّى البناء الأخلاقي في الرقي بالنفس إلى مدارج العبودية، والتخفف من أوزار الطين، وثقل الأرض لتستشرف النفسُ آفاقَ الإيمان، وتستشعر شيئًا من الأُنس بالقرب من فاطرها وبارئها، وتَسْبَح في ملكوتها. فالإنسان إنسان بروحه وشفافيته قبل أن يكون إنسانًا بجسده.
أقبِلْ على النفــــس واستكمـــل فضائلها
فأنـــت بالـــــروح لا بالجسم إنســــانُ
يتجلى الصبر في الإيثار، والإحسان، ومعايشة آلام الآخرين، ومقاسمتهم السرَّاء والضرَّاء، وذوق شيء مما يجدون، ويتجلَّى في الإمساك بزمام النفس عن اندفاعاتها وحماقاتها، فالصائم مقيد بشعور دائم يحمله على الكفِّ عما لا يجمل به ولا يليق، وربما أدرك كثير من الصُّوَّام هذا المعنى قبل أن يُهِلَّ رمضان.
والصوم يذكّر المسلم بالجهاد الذي هو حراسة هذا الدين، وذروة سنامه، وسطوته على مناوئيه، فلقد كان تاريخه الشهري ملتبسًا بالمواقع الفاصلة، من بدر تاج معارك الإسلام إلى فتح مكة؛ التي كانت إيذاناً ببسط سلطانه على جزيرة العرب، إلى حطين، إلى عين جالوت، والكتاب الذي آذن المسلمون بأنه كتب عليهم الصيام؛ هو الذي آذنهم بأنه كتب عليهم القتال.
هل يعود رمضان الذي عرفه المسلمون؛ ينبض بالروح والحياة والعطاء، وليس بالنوم وضياع الأوقات والتسابق إلى الملذات، والسهر في الخيام التي ترتكب فيها المعاصي والآثام؟؟
والصيام من أجل التقوى كما ورد في الآية، ومن عظيم إكرام الله عز وجل أنه جعل التقوى مخرجًا للإنسان من كل ضيق. قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا).
إعجاز هذه الآية في إيجازها، وبلاغتها في إطلاقها.
ومن يتق الله، ولا يسمح للأفكار الزائفة أن تأخذ طريقها إلى عقله؛ يجعل الله له مخرجًا من الضياع، والحيرة، والضلال، وخيبة الأمل، ومن يتق الله فيبرأ ممن حوله، ويبرأ من حَوْلِه وقوَّتِهِ وعلمه؛ يجعل الله له مخرجًا ممَّا كلَّفه به بالمعونة عليه، ومَن يتقِ الله فيقف عند حدود الله فلا يقربها، ولا يتعدَّاها؛ يجعل الله له مخرجًا مما كلَّفه به من الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة، ومن يتق الله في كسب رزقه، فيتحرى الحلال الذي يرضي الله عز وجل يجعل الله له مخرجًا من تقتير الرزق بالكفاية.
اللهم أعنَّا على الصيام والقيام وغضِّ البصر وحفظ اللسان، اللهم انصر إخوتنا المسلمين في الأراضي المحتلة، وفي مشارق الأرض ومغاربها، وفي شمالها وجنوبها. والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن