الإسلام والعلم
العلم؛ علم بالله، وعلم بأمره، وعلم بخلقه. والعلم بالله أصل الدين، والعلم بأمره أصل العبادة، والعلم بخلقه أصل في صلاح الدنيا.
لقد دعا الإسلام إلى العلم بالله، من خلال التفكر في خلق السماوات والأرض، حيث تتابع الأمر به في سور القرآن، وعُدَّ الأساس الأول لبناء دعائم العقيدة والإيمان، قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) [يونس:101].
والتفكر في خلق السماوات والأرض نوع من العبادات، ففي صحيح ابن حبان عن عطاء أن عائشة رضي الله عنها قالت: «أتاني النبي [ في ليلتي وقال: ذريني أتعبد لربي عز وجل، فقام إلى القُربة، فتوضأ، ثم قام يصلي، فبكى حتى بلَّ لحيته، ثم سجد حتى بلَّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه، حتى أتى بلالٌ يؤْذِنَه بصلاة الصبح، فقال: يا رسول الله ما يبكيك؛ وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله تعالى عليَّ في هذه الليلة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران:190]. ثم قال [: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
هذا عن العلم بالله؛ علمَ الحقيقة، فماذا عن العلم بأمر الله؛ علمَ الشريعة؟
إن الإنسان إذا تفكَّر في خلق السماوات والأرض، فعرف الله خالقًا ومربِّيًا ومسيِّرًا، وعرف طرفًا من أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى؛ يشعر بدافع قوي إلى التقرب إليه من خلال امتثال أمره، واجتناب نهيه، عندها يأتي علم الشريعة ليبيّن أمرَ الله ونهيَه في العبادات والمعاملات والأخلاق.
والشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجَور، ومن الرحمة إلى القسوة، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة إلى خلافها، فليست من الشريعة وإن أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل.
قال [ فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ».
وفي الحديث الشريف الصحيح: « قَلِيلُ الْفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ..» أخرجه الطبراني.
بل إن التفقه في أحكام الشريعة والعمل بها يُعدُّ أفضل أنواع العبادات قال [ فيما رواه الدار قطني: (مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ، وَلَفَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ، وَعِمَادُ هَذَا الدِّينُ الْفِقْهُ).
بقي علم الخليقة، لقد دعا الإسلام إلى العلم بطبائع الأشياء وخصائصها، والقوانين التي تحكم العلاقة بينها، كي نستفيد منها تحقيقًا لتسخير الله جلّ وعلا للأشياء، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20].
وتعلُّم العلوم المادية يحقق عمارَة الأرض عن طريق استخراج ثرواتها، واستثمار طاقاتها، وتذليل الصعوبات، وتوفير الحاجات تحقيقًا لقوله تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61].
وتعلم العلوم المادية والتفوق فيها قوةٌ؛ يجب أن تكون في أيدي المسلمين، ليجابهوا أعداءهم أعداء الحق والخير والسلام، تحقيقًا لقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال:60]؛ لأن القوة في هذا العصر هي قوة العلم، بل إن الحرب الحديثة ليست حربًا بين ساعدَين، بل هي حرب بين عقلَين.
ولحكمة بالغة لم يشأ الله جلّ وعلا أن يكون الانتفاع بخيرات الأرض وثرواتها وطاقاتها انتفاعًا بشكل مباشر يلغي دور الإنسان، وإنما جعل هذا الانتفاع متوقفًا على جهد بشري؛ علم وعمل، فقد أودع الله في البذرة قوة إنبات، ولكن لا بدَّ للإنسان من أن يزرعها ويرعاها، وأن يحصدها، ليجني ثمارها، وأودع الله في الأرض خامات المعادن، ولكن لا بدَّ للإنسان من أن يبحث عنها ويكتشفها، وأن يستخرجها، كل هذا ترسيخًا لقيم العلم والعمل، وابتلاءً لإنسانية الإنسان، فهل يرفعه العلم والعمل إلى أعلى علّيين؟ أم يسقطانه إلى أسفل سافلين؟
إنَّ التعلم والتعليم قِوام هذا الدين، ولا بقاء لجوهره، ولا ازدهار لمستقبله إلا بهما. والناس أحد رجلَين: متعلم يطلب النجاة، وعالم يطلب المزيد. وقد قال رسول الله [: «الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ شَرِيكَانِ فِي الأَجْرِ وَلاَ خَيْرَ فِي سَائِرِ النَّاسِ» رواه ابن ماجه.
وقد قيل: تعلموا العلم؛ فإن كنتم سادة فُقْتم، وإن كنتم وسطًا سدتم، وإن كنتم سُوقةً عشتم.
لكن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئًا.
ولا بد من أن تكون عالمًا، أو متعلمًا، أو مستمعًا، أو محبًا، ولا تكن الخامسة فتهلك.
وإن هذا العلم دين، فانظر عمَّن تأخذ دينك.. خذه عن الذين استقاموا، ولا تأخذه عن الذين مالوا.
. العلم الذي نرتزق منه وكفى.. ليس إلا حرفة من الحرف.
. والعلم الذي لا يصل تأثيره إلى نفوسنا، ومن ثم إلى سلوكنا؛ ما هو إلا حذلقة لا طائل منها.
. العلم الذي يجعلنا نتيه به على غيرنا؛ ما هو إلا نوع من الكبر.
. والعلم الذي يعطل فينا المحاكمة السليمة والتفكر السديد؛ نوع من التقليد.
. والعلم الذي يوهمنا أننا علماء كبار؛ هو نوع من الغرور.
. والعلم الذي يسعى لتدمير الإنسان، والفتك به، ويسعى لصناعة المرض؛ نوع من الجريمة.
. والعلم الذي نستخدمـه للإيقاع بين الناس، والعدوان على أموالهم وأعراضهم؛ نوع من الجنوح والانحراف.
. والعلم الذي لا يتصل بما ينفعنا في ديننا ودنيانا؛ نوع من الترف المذموم.
. وفي الدعاء النبوي الشريف: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا» أخرجه مسلم.
أسأل الله تعالى أن يوفق المعلّمين والمتعلّمين لما فيه رضاه، وأن يقوي أمتنا بالعلم النافع.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة