متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
الإرهاب والفراغ الروحي
شهدت أُمَّة الإسلام عبر تاريخها من الصِّراع الشَّديد في ميدان العقيدة والاجتماع والتَّشريع ما لم تشهده أُمَّة في التَّاريخ.. واستطاعت التَّصدِّي للفتن مستخدمة ما في الإسلام من حيويَّة ثابتة ومن قدرة على الإرشاد تُمَكِّن من إيجاد الحلول لكلِّ ما يطرأ من تجديدٍ في شؤون الحياة كلِّها. وهذا ما تثبته الدِّراسات العميقة لنصوص القرآن والحديث الشَّريف. الله سبحانه قرَّر الخلود لهذه الأمَّة، فسخَّر لها من القوَّامين على دينه ليجدِّدوا و يبعثوا الثِّقة فيه، وينفضوا عنه ما يمكن أن يعلق به من الغبار وما يلحق به من ضلالات. يقول[: «إنَّ الله يَبعَثُ لِهَذهِ الأُمَّةِ مَنْ يُجدِّدُ لَهَا دِينَهَا» (سنن أبي داود). ورَكْبُ المصْلِحين مستمرٌّ ينير الطَّريق عبر العصور.
فبمَ يفسَّر كلُّ ما يصدر اليوم من تطرُّفٍ وجفاف في القلوب وإرهابٍ دافعٍ إلى القتل بمثل هذه البشاعة، و باسم الدِّين؟!.. فما اُرسل [ إلَّا رحمة للعالمين.
إنَّ المتمعِّن في ظاهرة الإرهاب الَّتي غشيت العالم اليوم وتفرَّعت عروقها في كلِّ مكان يعرف جيِّدًا أنَّ منفِّذيها لا صلة لهم بالتَّربية الإسلاميَّة، وإنْ نَسبوا أنفسهم إلى الإسلام، فهو براء منهم بكلِّ المقاييس.. منفِّذو العمليَّات الإرهابيَّة في تونس وباريس وبروكسيل أخيرًا أغلبهم نشأ في أوضاع اجتماعيَّة متردِّية ومن ذوي السَّوابق العدليَّة ومن المدمنين على المخدَّرات، وهذا ما أكَّدته تحرِّيات الشُّرطة والتَّحقيقات..، فأمثال هؤلاء من فاقدي الأمل والثِّقة في جدوى الحياة يمكن أن يدفعوا بأنفسهم إلى منظومة العنف والجريمة والشُّذوذ والانتحار، أو أن يُغرَّر بهم لما هم عليه من تمزُّق نفسيٍّ وفقر مادِّيٍّ وروحيٍّ، وهم يحسبون أنَّهم يسلكون طريق النَّجاة..!
.. المجتمع الغربيُّ محاط بالتَّيسيرات في كلِّ ما هو متعة وإشباع للمطالب الحسيَّة والجسديَّة وما يخدمها من مطالب العقل والمنطق، وعارٍ من التَّربية الرُّوحيَّة.. قد يؤدِّي تحقيق مطالب الجسم إلى قدر من الاستقرار لا يتجاوز العقل والحسَّ، ولكن يَفقد الإنسان الكثير من أبعاد بشريَّته إن اقتصر على هذه المطالب فقط. هذا الَّذي ينتج ضيقًا في النَّفس، فيختلُّ توازن الفرد ويضطرب المجتمع، ويكون تفكُّك الرَّوابط الاجتماعيَّة ويغيب الأمن وتختفي الطُّمأنينة. فالحضارة الغربيَّة أعطت الكثير في مجال الإنتاج المادِّيِّ وأبدعت في التَّخطيط والتَّنظيم والخدمات والنَّشاط العلميِّ والاختراع، ولكنَّها أهملت وتجاهلت مكوِّناتها وطبيعتها، وقطعت صلتها مع السَّماء، وأهملت تلبية الحاجات الرُّوحيَّة المحقِّقة للتَّوازن وضبط النَّفس الَّذي يحفظها من السُّقوط بمختلف مشاربه وأنواعه.. فبدأت تفقد حتَّى نقطة تفوُّقها في إتقان العمل.. وعَلَت صيحات علمائها المنبِّهة إلى ما تعانيه هذه الحضارة من أزمات نفسيَّة واجتماعيَّة تؤدِّي إلى جفاف القلوب اليائسة السَّهلة الاستدراج إلى الدَّمار.. وهذا ما وصفه د. ألكسيس كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) "من العجيب أنَّ الأمراض العقليَّة أكثر عددًا من جميع الأمراض الأخرى مجتمعة".
وأمَّا البلاد ذات الأغلبيَّة المسلمة فانبهرت بخدمات الغرب الدَّقيقة والميسِّرة للحياة المادِّيَّة والمتميِّزة بالجدِّيَّة والإتقان والنَّظافة، وأغفلت الوجه الثَّاني للحياة الغربيَّة وتوقَّفت عند ظواهر الأشياء. هذا الوجه الَّذي يمتلئ حزنًا ويأسًا وشقاء نتيجة العري الرُّوحيِّ والرَّفض للدِّين والأسرة والأخلاق. فنَحَتْ منحى الغرب وأهملت ما يمكن أن يغدقه الثَّراء الرُّوحيُّ من خير، فتركت تعاليم دينها.. وغشيها ما غشي الحياة الغربيَّة من فراغ روحيٍّ يهدر قيمة الإنسان.
أوضاع العالم اليوم أضحت معقَّدة بما تُقدِّم يدُ الإنسان عمومًا وبما ينطق به لسانه وبما تروِّجه وسائل الإعلام دون تحرٍّ، وغابت الأخلاق وتعدَّدت أنواع الإرهاب وأسبابه. فالإنسان اليوم يُلَقَّن ممارسة العنف عبر الشَّاشات المرئيَّة دون وعي منه وبوسائل مختلفة..! ثمَّ إنَّ ظاهرة الخضوع المطلق لمنطق المصلحة الخاصَّة دون أيِّ اعتبار لمصلحة الآخر، تؤدِّي بالإنسان إلى تبرير عنف ما ظلمًا والسُّكوت على آخر، هذا الَّذي يسقط في ردود الأفعال غير الموزونة.
لا بدَّ من تحليل عميق وعادل للأوضاع المؤدِّية إلى الإجرام بمختلف مصادره ومشاربه، حتَّى يتمَّ وأد بؤرته من الجذور. فالعلاج يستلزم حتمًا ردع المنفِّذين للعمليَّات الإرهابيَّة. ولكنَّ الطَّبيب النَّاجع هو الَّذي يقضي على الجرثومة ذاتها، لا الَّذي يكتفي بوصف مسكِّن وقتيٍّ للألم.
ما أحوج العالم اليوم - في الشَّرق والغرب - إلى تربية تولي عناية بالجانب الرُّوحيِّ للإنسان كما تعتني بالجانب المادِّيِّ وترفعه إلى الحرص على العدل مع الجميع وفي كلِّ مكان، وتُرجِع إليه إنسانيَّته. ما أحوجه إلى تربية الإسلام الَّتي تحقِّق له هذا التَّوازن وتغلق الطَّريق على من يتكلَّم باسم هذا الدِّين بهتانًا وجهلًا ممَّن لم يتربَّوا على يده، كهؤلاء الَّذين يمارسون القتل ويرعبون العالم.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة