الشخصية السورية بين الثورة والاستبداد
نجحت العصابة الطائفية الأسدية على مدى نصف قرن في تعميق التنميط شخصياتها لإبعاد أي خطر يهدد استبدادهم مهما كان صغيرا، وسعت إلى تعزيز الشعور بالفردانية لدى السوريين، ونشرت هذه المقولة على أوسع نطاق، وذلك لحرمان الشعب من العمل الجماعي لرفع الاستبداد والظلم عنه والذي هو حاجة جماعية، وتغييره لا يمكن أن يكون فرديا، وأشاعت ثقافة التجسس والاستخبارات، فكان أن قدرت النيويورك تايمز عدد الجواسيس لدى المخابرات السورية بمليون شخص، وأن موازنتها تعادل المليار دولار في الثمانينيات، وهو رقم فلكي إذا قارناها مع دولة مثل باكستان التي لم تتعد موازنتها العسكرية يومها الثلاثة مليارات دولارات بينما عدد سكانها عشرة أضعاف سوريا وكذلك مساحتها، وموازنتها تشمل المخابرات والدفاع وبينها الصواريخ الاستراتيجية والقنابل النووية.
حين التقيت أحد الأصدقاء المسؤولين من الأفغان قال لي إن أحد الرؤساء السابقين لأفغانستان حين عين رئيس مخابراته طلب منه الأخير تحديد وظيفة أساسية له، فقال له: «لا أريد أن يكون هناك واحد يهددني»، فهذا في أفغانستان، فلكم أن تتخيلوا ماذا سيقول طاغية الشام المقبور والقاصر لرؤساء قمعه!
الاستبداد كالاحتلال لا يعيشان إلا على سياسة فرق تسد، ولذا فتعميق الضغينة والكراهية والشك في نفوس المواطنين هو رأسمال حقيقي للاستبداد، وحين بدأت أركان الاستبداد بالتداعي، استشعر الاستبداد بالخطر الداهم، فكان أن خرجت المظاهرات بمئات الآلاف ترفع شعارا واحدا، وقيمة واحدة وهي الحرية، فالشعب السوري الذي دفعه الاستبداد والتجسس والرعب إلى أن يشك الزوج بزوجته والوالد بولده والأخ بأخيه، انقلب بين ساعة وضحاها إلى شعب اندفع إلى تشكيل التنسيقيات ثم الألوية والكتائب والجماعات من أجل إسقاط هذا المستبد، فهل مثل هذا الشعب ينزع إلى الفردانية التي روجت عليه، أم أن الترويج بحد ذاته كان هدفا من أجل إبقائه تحت البوط الطائفي العسكري.
الشعب الذي هتف مباشرة بعد المظاهرات المليونية للمجلس الوطني وأطلق جمعة تحت اسم «المجلس الوطني يمثلني» أكد بما لا يدع مجالا للشك أن نزعته جماعية ومنح القيادات السورية الفرصة تلو الأخرى، تكرر ذلك مع الجيش الحر والمجلس الوطني ثم الائتلاف فهيئة التفاوض، ولا أعتقد أن الشعوب تاريخيا تمنح فرصا كهذه لجهة واحدة كما فعل السوريون، لاسيما في أوقات عصيبة كهذه ثمنها الدم والتشرد والدمار والخراب، إذن فأين الخلل؟ ولماذا لم يتحد الشعب على مستوى الوطن كله؟ الجواب بسيط وهو كما شخصه العلامة محب الدين الخطيب -رحمه الله- مطلع القرن الماضي: «المسلمون بخير ولكن الضعف بالقيادة» والشعب السوري حقيقة واقعة لا يمكن أن يسلم قيادته لغير النمور والأبطال، وهذا ما حصل أيام الأمويين والأيوبيين والصلاحيين والعثمانيين، ولا يقدم شيكا على بياض لقيادته، وما على الجماعات والقيادات السورية إلا أن تتهم نفسها وتراجعها في قدرتها على قيادة الشام التاريخية مهد الحضارات والإمبراطوريات إن كانت على مستوى أن تقود شعبا هذا حاله أم أن عليها أن تحيد عن طريقه ليفرز قيادة تليق بصفاته المتمثلة بالاعتداد بالنفس والاعتزاز بها، وبمركزيته وإرثه الحضاري والتاريخي ومسؤولياته المترتبة عليه على مستوى الإقليم والعالم.
المصدر : موقع العرب
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة