تشابك العلاقات الإنسانية وتداخلها
لعلَّ من أهمِّ الملاحظات البحثيَّة والتربويَّة أن نقرِّرَ بادئ ذي بدْءٍ: تداخل العلاقات الإنسانيَّة، وما يتَّصل بها من مشكلات وأزمات، وشدَّة تشابكها، وتأثير بعضها ببعض، بصورة يَعْسر معها في كثير من الأحيان أن يُعرَف السبب الأوَّل أو يحدَّد، وإلى درجةٍ يصعب معها، بل قد يتعذَّر أحياناً: التحديد الدقيق لما يكون مقدِّمة وسبباً، أو يكون نتيجة وأثراً..
ومن ثمَّ فإنَّ من يدرس جانباً من جوانب العَلاقات الإنسانيَّة، أو مرحلة من المراحل العُمْريَّة لا بدَّ له أن يُلمَّ بالجوانب والمراحل العُمْريَّة الأخرى، ولا يكتمل عمله بغير ذلك.. وكذلك مَن يتناول أزمة من الأزمات أو مشكلةً من المشكلات لا يستطيع النظرَ إليها وفهمَها بمعزلٍ عن الأزمات الأخرى، والمشكلات المحيطة بها، سواء أكانت ذاتيَّة خاصَّة، أم اجتماعيَّة عامَّة..
فالعَلاقات الإنسانيَّة كلٌّ مترابط، لا يصحُّ الوقوف عند جزء من أجزائه، أو لحظة زمنيَّة معيَّنة، ثمَّ نهمل ما سوى ذلك، أو نقلِّل من حضوره وتأثيره..
• ولنأخذ ظاهرة العنوسة التي يكثر الحديث عنها نموذَجاً ومثلاً: فعندما نريد الحديث عن مشكلة العنوسة، وتفاقمها في مجتمعاتنا نجد ضرورة الإلمام بمشكلات الشباب وواقعِهم وهمومهم، وذلكَ يقودنا إلى الحديث عن الأسرة وأزماتها، ومشكلاتها الاجتماعيَّة والتربويَّة والاقتصاديَّة، كما لا يخفى الاتِّصال الوثيق لهذه الظاهرة بالثقافة السائدة، والعادات والتقاليد المتحكِّمة، ويتَّصل الحديث وينتقل لزاماً إلى واقع الطفولة، وما تعانيه من مشكلات واختلالات؛ كأثر عن أزمات الأسرة ومشكلاتها، وما تفرزه من نتائج وآثار، ربَّما تكون مؤثِّرة على مستقبل الإنسان وعلاقاته..
وهكذا نجد أنفسنا أمام نسيج وثيقٍ من العلاقات الإنسانيََّة، يصعب الفصل بين أجزائها، ولا يمكن تقديم الحلول، واقتراح البدائل، أو التعامل والحكم على جزء منها مع تجاهل الأجزاء الأخرى وإهمالها وتهميشها.. وبذلك يتبدَّى لك خطأ أولئك الذين يعزون مشكلة العنوسة إلى غلاء المهور فحسْب، ولا ينظرون إلى تأثير العوامل الأخرى، وتداخلها معها..
وقد جاء في تقرير الجهاز المركزيِّ للتعبئة والإحصاء في بعض البلاد العربيَّة، الذي نُشِر بتاريْخ 5/8/2002 م، أنَّ حوالي /9/ ملايين من الشباب بَلغوا سنَّ /35/ سنة ولم يتزوَّجوا، أي عانس وعانسة، ووصل عدد المطلِّقين والمطلَّقات إلى مليونين وربع، وفي سنة واحدة بلغت حالات الطلاق أكثر من حالات الزواج!
فهل يمكننا التفكير في العنوسة وحلِّها بغضِّ النظر عن مشكلات الشباب والأسرة.. والعمل والبطالة.. وانعكاسات ذلك كلِّه على الطفولة، وعلاقته بها، وتأثيره فيها؟!
وقِسْ على ذلك مشكلة الطلاق، ومشكلة عمل المرأة خارج البيت، ومشكلة فَقْد الرعاية الصحِّيَّة الأوَّليَّة في أكثر البلاد الإسلاميِّة..
فالمشكلة الإنسانيَّة إذاً كلٌّ لا يتجزَّأ، والناظر الموضوعيُّ الحصيف إليها لا تشغله أجزاؤها عن النظرة الكلِّيَّة الجامعة. والعلاقات السببيَّة الوشيجة القائمة بين جميع أجزائها، أشبه بالعلاقة بين عضو الكائن الحيِّ وجسده، فكما يتَّصل العضو بالجسد الواحد، ويتلاحم معه.. فكذلك تتشابك العلاقات الإنسانيَّة وتتلاحم..
ولعلَّ المدخل الأكبر للتأثير في العَلاقات الإنسانيَّة المتشابكة المتداخلة هو إحداث التغيير الثقافي في عقليَّة الناس السائدة، وهو بلا شكٍّ أمر بالغ الصعوبة، ولكنَّه لا يصل إلى درجة الاستحالة.. ويؤكِّد على أهمِّيَّة التغيير الثقافي أنَّ المجتمع بسلوك أفراده وعاداتهم وعلاقاتهم إنَّما أكثره مرآة عن ثقافة الناس السائدة، بما فيها من خيرٍ أو شرٍّ.. وعمل المصلحين عامَّة إنَّما يراهن على ذلك، ويركِّز جهوده ونشاطاته عليه..
وهذا التغيير قد يُفْرَض فرضاً بقوَّة القانون والنظام، ولكنَّه لا يحدث التغيير إلَّا على المدى البعيد، ولا يتجاوز التأثير الظاهريَّ، الذي يأخذ صورة من صور الإكراه.. أمَّا التغيير الحقيقيُّ فلا بدَّ أن يتناول القناعات الداخليَّة العميقة للإنسان، فيحدث فيها هزَّة، تتبعها هزَّات، ثمَّ تُقدَّم للإنسان قيمٌ أخرى بديلة مقنعة، تنازع تلك القيم السابقة، وتبعدها عن ساحة القبول والتأثير..
والحديث عن ذلك يطول. والله وليُّ التوفيق، ومنه يُستمدُّ العَون والسداد.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة