استشاري جراحة المخ والأعصاب
السُّوَيدية والجرّاح
كتب بواسطة الدكتور الطبيب أحمد عمّار
التاريخ:
فى : قصص
1761 مشاهدة
كنتُ أدرس جراحة المخ والأعصاب في السويد عام 1979م أي قبل ست وعشرين سنة، وذات يومٍ طلبني أحد كبار الأطباء هناك في المستشفى الذي أعمل فيه؛ لنقوم بإجراء عملية جراحية لاستئصال ورم سرطاني في دماغ امرأة قد جاوزت الأربعين من عمرها، فاستعنتُ بالله تعالى وقمتُ بمساعدة هذا الطبيب في إجراء العملية، وقد استغرقت منا وقتاً ليس بالقصير، حتى تمكنّا ولله الحمد من إزالة الورم، وشُفيت المرأة بفضل الله... ثم بعد عشرة أيام دخلتُ عليها في غرفتها لأقوم بنزع (الغُرَز) من رأسها، وبينما أنا أعمل على إزالتها حرّكتُ مِرفقي بلا شعور مني فدفعتُ صورة كانت بجوارها فوقعتْ على الأرض، فأهويت لكي أرفعها فإذا هي صورة كلب! فرفعتها على كُرهٍ مني! فرأيتُ الامتعاض في وجهها، فقلت لها: إنه كلب!، فقالت: نعم، ولكنه الشخص الوحيد الذي ينتظر عودتي إلى البيت! وعلمت أنه ليس في حياتها مَن يفرح لفرحها أو يحزن لحزنها إلاّ هذا الكلب! وسألتني: من أين أنت؟! فقلت: من مصر، عربيٌ مسلم!، فأخذت تُسمعني كلمات الازدراء لوضع المرأة عندنا، وكبت حريتها كما زعمت... فقلت: إن المرأة عندنا مكرّمة مَصونة، فهي كالجوهرة الغالية النفيسة، كلٌّ يخدمها ويَحوطها: زوجها، وأبوها، وأخوها، وابن أخيها، وابن أختها،... كلهم في خدمتها.
جعل لها الإسلام مكانة ليست لنساء الدنيا كلها، وما حفاظنا عليها إلا لعظيم قدرها في قلوبنا، لا لشكٍ فيها، فهي محل الثقة، لكنها كالوردة الجميلة التي لا يجوز لكل الناس أن يشموها حتى لا تفسد! وإذا مرضت... فإنها تجد أهلها كلهم حولها، يحفون بها، ويخدمونها، ويراقبون أنفاسها، ويعتنون بها غاية العناية، ولا تكادين تجدين موطأ قدم في غرفتها لكثرة من يقوم بخدمتها من أقربائها، وإذا خرجت من المستشفى فإن هناك جيشاً من أهلها في انتظارها؛ فيفرحون لفرحها، ويسعدون لسعادتها، وليس كلباً في انتظارها كحالك!. فغضبت.. واتهمتني بأنني متخلّف وسطحي، وليس لديّ من مقوِّمات الحضارة شيء.. فابتسمت وخرجتُ من غرفتها بعد أن أنهيت عملي!. ثم فوجئتُ بأن تلك المرأة تشكوني إلى كبير الأطباء وتطلب منه عدم دخولي عليها مرة أخرى!، بل وترغب في الخروج من المستشفى. فقلت:
لابدّ من بقائها يومين على الأقل حتى أتمكن من إنهاء علاجها وأعمل لها تحاليل طبية. فأصرّت على الخروج وخرجتْ!
نسيتُ ذلك الموقف تماماً، فليست أول غربيٍ أسمع منه هذا الكلام، ولن تكون الأخير!. وفي ليلة، فوجئت باتصال من الطبيب المناوب بقسم الطوارىء يخبرني بوجود حالة غريبة لا يعرف كيف يتصرف معها، فسألته: ماهي؟... فأخبرني أن امرأة لديها حالة تشنج مستمر، يأتيها بمعدل كل خمس دقائق .. فأسرعت إلى المستشفى في منتصف الليل، ففوجئت بأن المريضة هي نفسها تلك المرأة! وكنت قد نسيتُ موقفها معي تماماً، فأدخلتها غرفة العمليات، وقمت بإجراء عملية لها في الدماغ، استغرقت وقتاً طويلاً، وتمت بنجاح والحمد لله، ثم.. دخلتُ عليها بعد إفاقتها، فرفعت رأسها ونظرت إليّ، وتكلمت بلسان ثقيل:
- أنت الذي أجريت لي العملية؟
- نعم.
- وسهرتَ بجواري طوال الليل؟
- نعم؛ لأن هذا واجبي.
- يعني هذا أنك أنت الذي شفيتني!
- لا.
مَن إذن؟ هل كان معك أحد؟.
نعم، إنه الله عز وجل، هو الذي شَفاك، وإنّما أنا سبب، أنا الذي عالجتُ فقط.
أنت لا تزال رجعياً، تؤمن بالخرافات، وما وراء الطبيعة، أعجب لك وأنت طبيب مثقف كيف تصدِّق مثل هذه الأمور؟
وأنا أعجب لك وأنت تدّعين الثقافة، كيف لا تقرئين عن الإسلام، وتُجيزين لنفسك إلقاء التهم جزافاً..؟!
... وغضبتُ جداً من كلامها، ولكن أملي كان يحدوني تجاه تحمُّلها لعلّها تهتدي، ثم ودّعتها وانصرفت. وبعد أيام خرجتْ تلك المرأة من المستشفى...
وبعد قرابة ستة أشهر، أخبرني أحد العاملين معنا أن هناك امرأة تريدني على الهاتف... رفعتُ السماعة ..
- نعم، من المتحدث؟
فإذا بها تلك المرأة نفسها، وقد تبدلت نبرة حديثها، لكنها تطلب مني أمراً غريباً..
- أريد أن أراك.. هل تستطيع أن تطلب إجازة من عملك، وتأتي إلينا في (لوند) لمدة يومين؟
فاعتذرتُ؛ لأن عملي متواصل دائماً بلا انقطاع؛ فألَحّت عليّ، فامتنعتُ، فطلبت مني طلباً غريباً:
- ما اسم أمك؟ (فقلت في نفسي: لعل هذا من آثار العمليات الجراحية التي أجريت لها، هل سببت لها خللاً في التفكير؟).
- لماذا تريدين اسم أمي؟
- قالت بصوت متهدج: لأني: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.. فأنا أسلمت، وعرفت طريق الحق.. وأنت لك حقٌ عليّ، وأريد أن أسمّي نفسي باسم أمك.. أنت الذي دلَلْتني على الطريق الحق ... ومن حقك أن أذكرك دائماً بخير.. فكادت سماعة الهاتف تسقط من يدي، وبدأت عيناي تفيض بالدمع، وبُحَّ صوتي، وأكملتُ حديثي بصعوبة بالغة...
وذهبتُ إلى رئيسي في المستشفى لأطلب منه إجازة يومين. فقال لي: أنت يا دكتور أحمد الطبيب الوحيد الذي لم يحصل على إجازة منذ سنتين! خذ أكثر. قلت: لا.. يومان كفاية. فذهبت إليها، فإذا هي امرأة غير تلك التي كانت تعظِّم صورة كلبٍ بجوار سريرها في المستشفى، امرأة تبدلت وتبدّل فيها كل شيء: كلامها، ولبسها، نظرتها للحياة.. ذهبت معها إلى المحكمة، برفقة زميلين لي؛ لنشهد إشهار إسلامها، وهناك وسط قاعة المحكمة صدحت بكلمة الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.. وقرأت الفاتحة قراءة ملؤها البراءة والطهر.. فانفجرت بالدموع العيون، وخشعت النفوس، وبكينا بكاء الطفل، من شدّة الفرح، وكيف لا نفرح وقد شهدنا ميلادها الحقيقي، وخروجها من الظلمات إلى النور؟.. وكيف لا أبكي فرحاً وقد أراني الله تعالى من كنتُ سبباً في إسلامها وإنقاذها من النار؟.. قمت وزميليّ وصلينا ركعتين شكراً لله، وصلّت هي خلفنا بصلاتنا! قالت لي: أتَذكر يا دكتور أحمد تلك الصورة لذلك الكلب الذي كدتُ أكتب له كل ثروتي؟ قلت: نعم، فقالت: فإني أتلفتها، وأنفقت كل أموالي في سبيل الله.. وبنيتُ منها أكبر مركز إسلامي هنا..
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن