وأهلّ عام هجري جديد
كتب بواسطة د. زلفى أحمد الخراط
التاريخ:
فى : المقالات العامة
2557 مشاهدة
إن مُضي الساعات حثيثاً، وانقضاء الأيام ركضاً، وتصرّم السنين سراعاً ، أمرٌ عزيزٌ على قلب كل مؤمنٍ حيّ وجِل، فبهذا التسارع المحموم للأحداث الزمانية من حولنا، وتفلّت الأوقات من بين أيدينا عظة وعبرة، تنبّهنا على تناقص أيامنا في هذه الدنيا، وقُربنا من آخرتنا، لمحاسبتِنا على ما قدمناه في حياتنا الدنيا التحضيرية لحياتنا الأخروية الدائمة، قال تعالى: (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)، ولئلا نقع فريسة لندمٍ في لحظة شديدٍ وطؤها عسيرة نجاتها، قال تعالى: (يقول يا ليتني قدمت لحياتي). ويضرب لنا الإمام التابعي الجليل الضحّاك مثالاً عميق التأثير في محاسبته لنفسه، وخشيته من ربه فقد كان رحمه الله اذا جاء مساء كل يوم بكى، فقيل له : لِـمَ تبكي رحمك الله؟ قال: "لست أدري أيومي هذا حجة لي أم حجة علي"..
لذا فإن العبد التقيّ النقيّ يستغلّ خاتمة عامه الفائت في محاسبة نفسية صادقة دقيقة، ويستقبل عامه الجديد بخُطط مُحكمة قويمة، تُصلح شأن علاقته بربه ونفسه والخلْق من حوله، ويعقد بها العزم على الإصلاح والتغيير إلى الأفضل والأقوم، فما من عبد عقد العزم على إصلاح ما بينه وبين الله إلا أصلح الله شأنه، وفي الحديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرئ ما نوى".
ففي جانب علاقته بربه: يسأل نفسه ويحاسبها عن مكانة الله تعالى في قلبه، هل قدّره حقّ قدره؟ وهل انفطر الفؤاد فرَقاً وخوفاً منه سبحانه؟ وهل تأمّل ملكوت الله وسلطانه العظيم في سمائه وأرضه ومخلوقاته العظام، فزادت عظمة الله في قلبه وهدته الى توحيده تعالى؟ هل أدّى الحمد والشكر على نعماءٍ ومِنحٍ لا تُعدّ ولا تُحصى؟ هل خلا مع نفسه وحاسبها على ما اقترفت من ذنوب ومعاصٍ؟ وليتأمل: أحسناته رجحت في ذلك العام أم سيّئاته؟ ولْيقف وقفة حاسمة مع العبادات، أكان أداؤه للفرائض الدينية كما أمره الله تعالى أم قصّر في ذلك؟ فمن حفظها حفظه الله ولقّاه رضواناً، ومن أضاعها أضاعه الله وبوّأه خسراناً.
أما في جانب علاقته مع نفسه: فليُسائلها أكان أداؤها في عملها على النحو المرجوّ اللازم؟ وهل أدّى ما أُنيط به من مسؤوليات وواجبات كما يجب؛ ليستحلّ ما يجنيه من مال حلال، فيُستجاب دعاؤه، وفي الحديث: (مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له).. وليُحاسبها بدقة عن مدى تطوره الذاتي من الناحية الثقافية والعلمية، وكم من الكتب التي قرأها، وكم من الدورات التي حضرها؛ ليسمو بشخصه نحو المعالي، ويطوّر مهاراته للأقوم، ويُعلي من قدراته للأفضل، ويترفع عن السفاسف التي لا يرضى بها سوى الدون من الخليقة..
ولا ينسى تقويم علاقته بمجتمعه في العام المنصرم، ولْيقف وقفة تأمل في محيط تلك العلاقة، وليتفكّر: هل قام بحقوق أرحامه على أكمل وجه: فـــــ (الرحم معلّقة بالعرش تقول مَن وصلني وصله الله) ، وإن كان رب أسرة فهل أدّى ما عليه من واجبات تربوية تجاه زوجه وأولاده فـــــ (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) ، وماذا عن واجباته الدعوية للمجتمع من حوله مسلمين وغير مسلمين؟ هل كان له دور دعوي في التوجيه والإرشاد وإسداء النصح؟ هل بذل جهداً ملموساً في دعوة غير المسلمين وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وفي الحديث: (لأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)، ولا سيما في عصرنا الحاضر حيث يسّرت التقنيات الحديثة في الشبكة العنكبوتية مهمة التواصل مع غير المسلمين، والتأثير فيهم، وتصحيح مفاهيمهم عن الإسلام وحقيقته.
وثمة أمور تُعين المسلم في بداية عامه وتساعده على استهلال عام جديد مشرق مفعم بالحماسة والأمل:
ففي البداية يأوي المؤمن في جميع جوانب حياته إلى الله تعالى، فهو ركنه القوي الشديد، الذي يمدّه بالعون والسداد، ويشحذ همّته بالتوفيق والفلاح؛ لذا فهو دائم التضرع إليه سبحانه أن يوفّقه إلى مجالات الخير ويباركه أينما وحيثما حلّ، ويعيذه من أنواع الفتن وأشكال الضلالات.
ثم لِيعقد العزم على تسخير أيام عامه القادم ولياليه في مرضاة الله وطاعته، ونفع الخلق؛ فكثير من الناس يوفّق في العمل الصالح ويُبارَك له فيه بفضل إخلاص نيته لله تعالى.
وليكن لكلّ امرئ خليلٌ مقرّب من أهل التقوى، يستعان به في الشدة والرخاء، ويشدّ به عضده في السرَاء والضراء، فالخليل الصالح نعمة عظمى, إذا نسيت الله ذكّرك, وإذا ذكرت الله أعانَك, وإذا ألمّ به خطبٌ ساعدك، كتفٌ رؤوف تريح عليه رأسك المهموم، ويدٌ حانية ترشدك إذا ادلهمّت الخطوب.
ورحم الله ابن القيم الذي أجمل لنا طريقة محاسبة النفس في كتابه (إغاثة اللهفان) فقال : جماع ذلك أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض فإن تذكر فيها نقصاً تداركه إما بقضاء أو إصلاح , ثم يحاسب نفسه على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية , ثم يحاسب نفسه على الغفلة فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى، ثم يحاسبها بما تكلّم به أو مشت إليه رجلاه أو بطشت يداه أو سمعت أذناه".
وبعد..
فلنسمُ بهمتنا، ولْنُعلِ من قيَمنا، ولنضع نصب أعيننا عام جديد مزدان بالطاعات، حافل بالإنجازات، مشذّب بالمحاسبة، وليكن شعارنا ودليلنا على طول دربنا مقولة أمر المؤمنين عمر رضي الله عنه إذ قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا, وتزيّنوا للعرض الأكبر".
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن