داعية، مسؤول فرع جمعية الاتحاد الإسلامي في البقاع وعضو هيئة علماء المسلمين في لبنان
طبيب الأسنان في تَتَارِستان
مع تفكك الاتحاد السوفياتي خَفَّتْ القبضة الفولاذية التي كانت تَخنق الأفراد والمجتمعات الرازحة تحته؛ استقلَّتْ عن روسيا بعض دول ذلك الاتحاد، وبعضها نال حُكماً ذاتياً، كَحَال "تَتَارِستان" مِحور قصتنا هذه.
ربما لم يَسمع الكثير عن هذه الدولة فَضلاً عن عاصمتها "قازان"، بالرغم من أنها مدينة عظيمة مِن حواضِر الإسلام، كأخواتها بُخارى وسمرقند...
تَعرَّضَتْ تتارستان زمن الاحتلال الروسي الشيوعي إلى حملات مَحْو الهوية الإسلامية، بمعظم معالِمها: العقائدية والشعائرية واللغوية... بأساليب وَحشية تحت ضغط الحديد والنار.
وفي عام 1992م توجَّه قُرابة 150 طالباً عربياً للدراسة الجامعية في العاصمة قازان، بينهم 70 شاباً من لبنان، فتفاجؤوا مِن الكَبت الديني هناك، فالدولة ذات الـ 68 ألف كلم2 لم يَبقَ للمسلمين فيها (مِن نحو1000 مسجد) إلا 9 مساجد مفتوحة! أحدها "المسجد المرجاني" في قازان، حتى أن المُتوفَّى قد يُسافَر به إلى أقرب مسجد 400 كلم ليُصلى عليه الجنازة!
أما الحجاب فكل النساء يغطِّين رؤوسهن في فصل الشتاء، اتقاء للبرد القارس لا طاعة لله تعالى، أما في الصيف فلم تَكن تَجد امرأة واحدة تستر شعرها في قازان.
وعلى ذلك فَقِس...
لم يكن هذا التصَحُّر الديني مألوفاً لأولئك الشُّبَّان الوافدين، خاصة أبناء مدينة طرابلس الفيحاء الشامية، حيث المساجد والمعاهد، ومِن بينهم كان ربيع العُمَري الطالب في كلية طب الأسنان.
بادئ ذي بَدْء رَصد الواقع، فتحرّق وتعبَّأ وفكَّر كيف يتحرك؟! فالطغيان تقلَّص، وهامش الحرية توسَّع، لكنّ أهل البلد قد أصابتهم عُقْدة الفيل(1)، فكيف يمكن أن تُحَلَّ تلك العقدة؟!
اعتمد معهم الصَّدْم النفسي لِفَكِّ القيود وإثارة العاطفة الإيمانية الكامنة تحت رُكام الظلم والاضطهاد، فتوجَّه في إجازته الأسبوعية يوم الأحد إلى مسجد من تلك المساجد المهجورة، وسأل الجيران عن المفتاح؟ فقيل له: إنه مع العجوز الفلاني. فزاره وأبلغه رغبته في فتح المسجد وتأهيله لاستئناف الصلاة فيه. طبعاً كان الاقتراح صادماً، لكنه اقتنع وتحرَّر مِن عقدة الفيل وترافقا إلى المسجد، فاعتلى الشاب ربيع المئذنة ورفع الأذان فَذَهِل الناس مِن سماع الأذان الذي غاب عنهم عشرات السنين، بل إن بعض الأجيال الصاعدة ما سبق لها أن سمعته مِن مسجد!
سارع الناس ليستكشفوا الجديد، وبعضهم غلبه البكاء فاستقبلهم الطبيب الشاب وشرح لهم فكرته ليتعاونوا على تنظيف المسجد ورفع الغبار عنه، ثم جلس يعلمهم الوضوء وسورة الفاتحة التي يجهلها أكثرهم... وقضى معهم طرفاً مِن ذلك اليوم ليودِّعهم على موعد اللقاء الأحد التالي.
وفي الأسبوع التالي يكمل الدكتور ربيع لهم دورة التأهيل بنفسه أو يوفد إليهم أحد زملائه من الطلاب العرب...
وهذا هو المشهد الذي تكرَّر عشرات المرات؛ يسلِّم مسؤولية المسجد لأحد زملائه، ويقصد هو مسجداً آخر ليفتحه ويحث الناس على إحيائه... وهكذا دَواليك أسبوعياً.
ومِن مدينة إلى أخرى أُعيد فَتح بيوت الله تعالى التي ضاقت عنها صدور المحتل الملحِد فأوصد أبوابها في وجه المصلِّين.
لكنِ اعترضت طريقَهم معوِّقات جديدة! فبعض المساجد لم يغلقها العدوُّ، بل احتلها وحوَّلها إلى: خَمَّارة، أو مَرقص، أو زَرِيبة حيوانات، أو مَتْجر ومستودع! وأبى محتلُّوها تسليمها وإخلاءها. بادَر أحد الطلاب قائلاً: إن أختي في لبنان محامية دارسة للقانون فسأستشيرها. وهكذا كان، فأرشدتهم إلى آلية رفع الشكاوى على المحتل الغاصب، كما دفعوا أحياناً مبالغ مالية مقابل الإخلاء، فتحرك طبيب الأسنان وزملاؤه لجمع التبرعات لذلك.
ويبقى العنصر البشري هو الثروة الكبرى دائماً، والعائق الذاتي هو التحدي الأشد! فقد نَفِدَ الطلاب العرب المهتمون دِينياً، في الوقت الذي لا تزال كثير مِن المساجد تئن وتستغيث؛ فأين المخرَج؟!
صباح يوم الأحد طرق د. ربيع بابَ سَكَن أَحدِ أولئك الطلاب غير المتدينين طالباً منه مرافقته إلى بلدة جديدة، فصُدِم الشاب بالطلب، واعتذر بأنه بصحبة عشيقته!!! فلما ألحَّ عليه ذَكَّره بجهله في العلوم الشرعية! فسأله زميله ربيع: ألا تعرف كيف تصلي وتحفظ الفاتحة وقصار السور؟ أجابه: بلى بالطبع فأنا مسلم! فقال العمري: إذن لا عذر لك! فالناس هنا بأمس الحاجة إليك، كائناً ما تكون خلال الأسبوع ستكون أنت الشيخ الداعية كل يوم أحد، قُمْ واغتسل فأنا بانتظارك! وذلك ما حصل.
وقد جَرَّ إليه ذلك الخير الكثير؛ فاستقام وأسلمت عشيقته التَّتَرية وتزوجا لينعما بالحلال!
ولا شك في أن تلك الحركة الدَّعوية قابلتها أصداء مِن التَّتريين أنفسهم، فقد تجاوب تُجَّارهم ببذل المال، وأوفدوا أولادهم لدراسة الشريعة في المدينة المنورة ودمشق والأزهر... ليعودوا فيما بعد إلى قومهم دعاةً مصلحين!
إنها: بَرَكة الحركة!
وجدير بالذِّكر أن هذه التحركات الدعوية ساعدت أولئك الشباب على ألا ينجرفوا إلى محرمات المجتمع وتجاوزاته، ولا يذوبوا في عاداته، بل حوَّلت ضغوطات الغربة ووحشتها إلى فرج وفرح وأُنْس، وجعلتهم مُرشِدين للخير والإصلاح بفضل الله.
عاد طبيب الأسنان ربيع العمري من تتارستان إلى طرابلس بعد 6 سنوات مُخلِّفاً وراءه 500 مسجد!!! منها 17 مسجداً في قازان. بالإضافة إلى عودة الحجاب، والعلم الشرعي، والصلاة... أما اليوم بعد مرور 24 سنة فتخطَّى عدد مساجدها الألف بفضل الله.
وقد استضفناه لإلقاء محاضرة في المنتدى للتعريف بالإسلام في بيروت حيث عَرَّفَنا بقصَّة تَجرِبته. و العمري اليوم عضو مجلس نقابة أطباء الأسنان في شمال لبنان، نسأل الله أن يكتب له ولإخوانه أجر بِشارته [: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» رواه مسلم.
إنها إشراقة أمل تدفعنا إلى الجِدِّ والعمل، (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)، ليسوا مشايخ خريجي معاهد شرعية، ولا موظفين في وزارة الأوقاف، ولا مفوَّضين من الأزهر، إنما مسلمون استنهضهم الواجب الشرعي، بما يعرفون وقَدْر ما يستطيعون.
***
تعليق:
عقدة الفيل: كالفيل الذي يصطادونه صغيراً، ويربطونه مِن رِجْله، فييأس بعد أن يحاول الإفلات دونَ جدوى، ثم يكبر وتتعاظم قوتُه إلى حدٍّ لا تصمد أمامه حبال ولا أوتاد، لكنه لا يعيد المحاولة! فصار مَضْرِبَ مَثل.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن