حديث مع روح سحر المصري
كتب بواسطة جيهان القيسي
التاريخ:
فى : حوارات
2971 مشاهدة
اتفقنا على اللقاء مرتين، ولم نلتقِ.. ضغوطات الحياة منعتنا من اللقاء، لكنها لم تمنعني من متابعتها.. أدمنتُ قلمها الثائر والحنون والمُحبَّ.. لم تروِ تعطُّشي للقراءة، بل كلما قرأتُ لها جملة؛ أتعطَّش للمزيد! لم أعرفها شخصيّاً، لكنني عرفتها من خلال كتاباتها، تغلغلتُ في حروفها ومشاعرها وتطلُّعاتها وتجاربها وآرائها، واستمديتُ من قلمها الكثير من القوة والصبر والإباء..
وبعد رحيلها؛ غصتُ بمقالاتها وأحاديثها، عشتُ مع أحاديثها لأيام وأيام، تعرَّفتُ عليها أكثر، وجدتُ أنها شخصية لا تتكرر مرتين.. جذبتني بلغتها التي تجمع الكثير من التناقضات: الوجع، التمرُّد، الحنين، الحب، الحكمة، وغيرها. أكثر ما جذبني في كتاباتها أنها علَّمتني أن أجد الحرية في ديننا في الوقت الذي شوَّهه أمامي الكثيرون! وجدتُ في إيمانها وأفكارها وأحلامها ما كنتُ بحاجة إليه..
لم تترك شيئاً من أمور الحياة الأساسيَّة إلا وحَكَتْ عنها، مما يجعل كتاباتها زاداً للأجيال القادمة لأنها تمثِّل كل زمان ومكان.. حقّاً ستبقى كلماتها خالدة لا تموت.. كلما أعدتُ قراءة جملة من جُملها؛ أرى معاني جديدة لم أرها من قبل.. أتمهَّل عند بعض الكلمات.. فتتزاحم الكثير من المشاعر الدافئة في قلبي..
لماذا هذا الحوار؟؟ إنه الحنين إلى زمانها.. إنه الألم؛ لأننا لا نجدها حين نفتقدها.. إنه التَّوق إلى نبضاتها وأحلامها.. إنه الأمل الذي ينبثق من حروفها.. حوار يترجم أثرها العميق للآلاف بعد رحيلها..
• هل يمكن أن تعرِّفينا عن نفسك أستاذة سحر؟
- عندما أعرِّف عن نفسي أُفضِّل أن لا أتحدث عن شهاداتي وخبراتي.. سأختصر لكِ سحر بسطور:
وُلِدتُ في مدينة طرابلس التي أعشق تُربَها ونَفَسَها! لكنني مكيَّة القلب، فلسطينيَّة الروح، شاميَّة الهوى والهوية. شخصيَّتي هادئة ومسالمة، لكنني في الوقت نفسه ثائرة على الظلم، شديدة الكراهية للباطل. في قلبي ثوراتٌ تغلي وبراكينُ تفور! أسعى لتغيير نفسي.. ومَن حولي.. أعشق الظلال الوارفة.. وقد أسلمتُ الروح لبارئي يوم الجمعة الواقع في 19 آب 2016م. حالياً أنا في مكان يبهرني ويسعدني.. لا يمكنني وصفه.. أعانق فيه النور.
• كيف تجدين تعامل الأحباب بعد مماتك؟
- عرفتُ بعد مماتي أثر ما كتبتُه عند الكثيرين.. في فضاء ما.. ثمة تغريدة لي! وجدتُ هناك الكثير من الأصدقاء ممن لم أعرفهم خلال فترة حياتي.. كم هو رائع هذا الشعور!
• كيف تعرِّفين الإسلام في جملة واحدة؟
- حبُّ الخير للناس أجمعين..
• ما قصَّة الخيل الذي لطالما رأيناه على صفحاتكِ؟
- أرى في الخيل شغف العزَّة والحرية والانطلاق! هو قوة وعزيمة وجَمال وعنفوان! أنا مثله..أحاول أن أتروَّض، لكنني سأبقى عصيَّة.. وستبقى نفسي جامحة.. لأنها أدمنت البرِّيَّة!
• ما هي النصائح التي توجهينها للقرَّاء؟
- النصيحة الأولى: لا تحلو الحياة إن كانت خطواتنا فيها سهلة وتقليدية.. كلما أبدعتَ أكثر.. وتعثَّرت في المسير.. كلما كانت الثمرة ألذ وأطيب! ولو طال موعد القطاف.. والصبر عنوان الطريق..
النصيحة الثانية: قد يكون الهروبُ "أسهل" الحلول.. ولكنه بالتأكيد ليسَ أفضلَها! المواجهة والتغيير من أصعب الأمور.. وقد يكونان "أروَعَها!"..
النصيحة الثالثة: كل شيءٍ يمضي.. بما فيه من لذة أو ألم! ويثبت الأجر.. أو الوِزر! فاحرص على أن تقدِّم لنفسك ما يليق يوم القيامة.. لتسعد..
• ما هي نصيحتك للزوج والزوجة بالتحديد؟
- افْعَل ما يحبُّ الطرف الآخر، وتفانَ في احترامه، وتسابق إلى إسعاده، واجعل المرونة مطيَّتك إلى الاستقرار، حينها سيغمرك شعور عارم بالسكينة والراحة والطمأنينة؛ يجعلك تحلِّق في فضاءات الجنان وأنت ما زلت على الأرض! فلا سعادة كالعطاء والإرضاء.
• ما رأيك بزمن الثورات؟
- في زمن الثورات اليوم.. وبذل الدماء التي تُنبِت بإذن ربها جلَّ وعلا عزَّةً وإباءً.. نصراً وكرامة.. نعيش على أمل أن يعمَّ استيقاظ الضمائر والعنفوان في كل نفس لتكسر قيد جلَّادها.. أيّاً كان اسمه أو حجمه.. ابتداءً من الذات، وانتهاءً بالطاغوت!
• ما الوطن الذي تفتِّشين عنه؟
- أُفتش عن وطن يحتويني.. ويحضن أملي وألمي.. أنصهر فيه بكليَّتي.. يحترمني.. يسددني ويدفعني إلى العمل بتفاؤلٍ وإيجابيَّة.. يضمن حريَّتي وحقوقي.. يقدِّر طاقاتي ويوجِّهها لازدهاره وخير أبنائه.. يمتص غضبي.. ويرحمني.. يؤمِّن لي لقمة عيشٍ هانئة.. وماء لا غصَّة فيه..
أُفتش عن وطن.. اللِّحية فيه ليست رمزاً للإرهاب.. والنقاب اختيار.. والحجاب فخار.. والإسلام شريعة وتنزيل.. والانتخابات حرَّة.. والشعبُ عاقل.. والحرية إصرار.. والثورة في الحق قرار.. والسجون لتربية المجرمين.. لا لتعذيب الإسلاميين! أُفتش عن وطن.. بحجم الكرة الأرضيَّة.. حدوده مفتوحة.. أرضٌ واحدة، شعبٌ واحد، أمَّةٌ خالدة..
• ما هي أحلامكِ؟
- أحلم أن يعود للأسرة المسلمة دورها الرائد في إفراز قيادات التغيير ورواحل الأمَّة..
أحلم أن تعود المودَّة والرحمة بين كل زوجين.. وأن تتضاءل نِسَب الطلاق في مجتمعاتنا حتى لا تكاد تُذكَر..
• إذا طلبتُ منكِ أن تهمسي في أذني وشوشة، ماذا تكون؟
- وشوشة أنثرها عند كل مطبٍّ.. لا يتعلقنَّ قلبك فوق الحدِّ بإنسان.. أو حيوان.. أو شيء.. وتجعليه عوضاً لآخر.. فكل ذلك زائل.. ووجِّهي (كلَّك) إلى ربٍّ رحيم.. كريم.. لا يغيب.. ولا يرحل! فإن استوى العقل وثبت القلب فهل يكون لغير هذا المعبود تعلُّق؟! لا وَربِّي! وكم تحلو حينها الحياة مع كل ألم.. حين يكون الصبر الرفيق.. والرضا الطريق.. والآخرة الحصاد.. بفضله وكرمه سبحانه!
• لماذا هناك حزن يغلِّف بعض حروفك؟
- أليس للواقع يدٌ في ما يختلج في صدورنا من هموم وأسى.. فحال الأمَّة ومقدَّساتها وهيبتها وأبنائها يندى له الجبين..
ما يجعل المسلم متوتر الأعصاب عند كل خطب جلل.. وفي كل يوم لنا مصاب! حتى نحن أنفسنا لنا دور في جنوحنا للحزن.. فتقصيرنا في حقِّ ربِّنا وأمَّتنا ودعوتنا يجعلنا نشعر بالصَّغار.. فهُنا أسير.. وهنا قتيل.. وهنا مدَّعي.. وهنا ظالم.. وهنا خائن!.. وهنا تهويد.. وهنا تدنيس.. وهنا حصار.. وهنا استبداد.. وهنا دمار.. وهنا تكالب على الأمَّة! وهنا موت.. وهنا موت.. وهنا موت! وموت الأخلاق والإحساس والحب! عالم إيقاعه سريع.. خالٍ من الروحانية.. مُفعمٌ بالمادية.. مقلوب الموازين.. مضرَّجٌ بالخيانة والكذب.. ومَن نتوسَّم فيهم خيراً يطعنوننا في الصميم.. ثم علينا أن نبتسم؟!
• أليس الحزن ضعفاً؟
- أرجوكِ لا تقلِّديني وسام الضعف! سأبقى أتلذَّذ بكلمات الألم.. حتى تنتفض أمَّتي وتعود.. وحتى يكون إيابٌ إلى الله جلَّ وعلا؛ لا رجوع عنه.. وحتى يكون عملٌ دؤوب؛ لا كسل معه! وسأحضِّر كفن الحزن.. لزمنٍ قريب.. يستحق أن نسعد فيه.. بإذنه!
• لكنكِ رحلتِ قبل أن يأتي هذا الزمن الجميل!
- الموت ظفر مني بالجسد.. أما روحي فهي في كل مكان.. ستجدينها بين كلماتي وداخل حروفي!
• ما الذي كنتِ تطمحين بتحقيقه؟
- كنتُ أحلم أن تنشر الحرية أجنحتها على البلاد كلها.. وأن يضمحلَّ الخلافُ بين المتخاصمين حتى يصلوا إلى خندق واحد.. يواجهون فيه الظلم معاً.. متعالين على المصالح الشخصية والخلافات الحزبية..
• هل أنتِ غاضبة من مرضك؟
- في كل محنة منحة.. أحياناً كثيرة أُفتِّش عن مفردات حِكمة الله جلَّ وعلا في الابتلاءات.. لأفهم وأعي.. ولا يبقى لنا إلا الرضا.. بثقة.. وبحُب! هي الحياة هكذا.. وعرة.. كثيرةٌ ابتلاءاتها.. جميلة بكدرها إن ربطناها بالآخرة.. وقد سلَّمت أمري لربي سبحانه.. مهما كان وسيكون! وسأمضي في يقيني وثباتي بإذنه.. حتى ألقاه! فهو مَن ابتلاني.. وأستمد قوَّتي من رضاه..
• ما الأمور التي تشعرين فيها بغصَّة لأنكِ رحلتِ قبل أن تشاهديها؟
- أشعر بغصَّة لأنني رحلت قبل أن يعود لفلسطين بريقها.. وقبل أن يتحرر الأقصى وأصلِّي فيه.
• ماذا تبكين؟
- دعيني أسألكِ هذا السؤال! أأبكي القدس.. أم أبكي مصر.. أم أبكي طرابلسَ.. أم أبكي الشامَ؟! وجعي نبضٌ في شرياني الأيسر.. اسمه: سوريا!!
• أيّ نوع من النساء يؤثِّر بك؟
- تفتنني نساء غزة.. نساء ارتقَين في سلَّم الإنسانيَّة والكرامة.. أساطير خططنها لكلِّ راغبٍ في تذوُّق معاني الصبر والصمود والعزِّ والتضحية والإيثار والإيمان والثبات والإصرار.. ليس في قصورٍ فارهة؛ بل على خطوط المواجهة والنار! مليون ونصف إنسان يعيشون في غزَّة فيهم الشيخ والشاب والمرأة والطفل.. ونواتهم: امرأة! هنيئاً لهنَّ تسطير التاريخ بكل هذا الفخر بالرغم من ألم الجراح.. وتطريزه ببطولاتهنَّ المباركة!
• برأيك ما هو الحب؟
- الحبُّ الحقيقي هو الحبُّ الطاهرُ المؤطَّرُ بالشرع.. الحب فلسفة.. وهو يحتاج إلى حوارٍ.. ورعايةٍ.. واحتواء.. يحتاج إلى ريٍّ.. وأن يشعر المرء بارتواء.. ليكون سكناً..
• هذا كلام جميل لكنه عام.. نحن بشوق لإخراج ما في قلبك من حب!
- زوجي الحسن قد اختصر أحلامي المؤجَّلة.. كان حلماً قابعاً في عمق قلبي ووجداني، لكنه تحقَّق بعد عشرين سنة.. كيف يمكن أن يختصر رجل واحد كل تلك الأحلام؟!
هو نور بزغ في أفق حياتي يبشِّر بفجر جديد.. هو قلب احتواني، وفكر التأم مع فكري، وروح سكنت روحي، وصدر أُلقي عليه الهمهمات والهلوسات فيحِنّ.. ويَد تُمسك بيدي فتدلّني على الطريق إلى الله جلَّ وعلا لنرتقي معاً في مدارج السالكين.. فما أُحَيْلاها من أحلام بأن تلتئم الأرواح والقلوب!
• هل تعرفين أنكِ لم ترحلي بالنسبة له؟ بل طَيْفكِ وذكرياتكِ معه في كل لحظة؟
- أكثر ما يحزنني بعد مماتي هو زوجي.. أراه حزيناً جدّاً لرحيلي.. لا أعرف كيف أخفِّف من حزنه.. حتى إنه كان يُخفي حزنه خلال فترة مرضي.. فالوجع كان يكتنف قلبه بسببي! حقّاً لا يتقن العزفَ على وتر القلب. إلا الحبيب.. فإنْ حَنَّ.. حسُنَ المقام.. وإن رَحَل. فلحنٌ حزين!
• ابتسامته لم تعد كما كانت قبل رحيلك، ما الرسالة التي توجِّهينها مباشرة لزوجك؟
- أميالٌ بيننا.. أَيصِلُ نبضي إليك..؟ إن حالت المسافاتُ دون أن تشعرَ بصَخبِ سكوني.. فتحَرَّ قلبَك... أنتَ هدية من الله لطالما شُغفتُ بها..! جئت بحفنة من أحلام الأمس البعيد التي لم تفارق وجداني يوماً.. فأهديتني كل ما لديك.. القلب والروح.. والعقل والعلم والنفس.. والتَّوق إلى خدمة الدعوة والشريعة والإسلام بكل قوَّة وقدرة.. والرغبة بالتعبد والتفقُّه والتودُّد.. من مسكِّنات الألم في الحياة.. قلبٌ يعانق ويحنّ.. وسأكررها دائماً: أحبُّك يا أنا....
• أتدرين أنه يتحفنا ببعض الذكريات حولك؟
- أشعر بكل نبضة يخطُّها قلبه الحنون، فيبتسم قلبي وتسمو روحي!
• كلمة أخيرة؟
- إنَّ لكل إنسان باباً يوغل منه الآخرون.. فليفتِّش كلٌّ منَّا عن مفتاح قلب مَن يعيل ومَن يحب.. فالدنيا أقصر وأحقر من أن نقضِيَها في مشاحنات وضغوط وألم.. والإسلام وضع بين أيدينا علاجاً لكل معضلة؛ إن أخذنا به ابتداءً كان وقاية لنا من كل هَمٍّ.. ولا بأس أن نعود إلى تعاليمه إن شتتنا عنها ذات غفلة.. وفي الإياب كل خيرٍ للنفس وللأسرة وللمجتمع على حد سواء..
- بعد رحيلك، تحضرني كلماتك: " نتلمَّس مواضع أقدامهم على الطريق.. ما أصعب الرحيل..."!
لا تعيشي في كلماتي.. اعملي أنتِ والجميع على تحقيق ما لم أستطع تحقيقه! الأمَّة تحتاج إلى أفعال.. وليس فقط أقوال.. حتى الإيمان لا يصحُّ بمجرد قول اللسان.. وإنما يحتاج إلى ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.. مع النيَّة الخالصة.. أريد أن تكونوا خيرَ جنودٍ لخير دين تعملون له بإخلاص ويقين.. وأريد أن يكون همُّكم الأول كيف تعيدون للدِّين مجده..
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة