الإرهابي الذي وُضِعَ له القبول في الأرض
في الحديث الصحيح: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً قَالَ لِجِبْرِيلَ إِنِّي أُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ. فَيَقُولُ جِبْرِيلُ لأَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ رَبَّكُمْ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ "ولا أظن أحدا يخالف في أن اللاعب محمد أبو تريكة من الذين وَضَع الله لهم القبول في الأرض، وليس أدل على ذلك من صدور قائمة فيها أسماء أكثر من 1500 شخص ضمّتْ رئيس جمهورية منتخب ووزراء وبرلمانيين وسياسيين بارزين وإعلاميين تم تصنيفهم بأنهم إرهابيون، ثم تُفاجأ بأن التفاعل الجماهيري الأكبر والأبرز هو من نصيب لاعب الكرة محمد أبو تريكة!!
لا يفوتني طبعا أن من دواعي شرفي وسروري وجود اسمي ضمن هذه القائمة البيضاء المحترمة، وفي الحقيقة أنا لم أتعب كثيرا أثناء البحث عن اسمي ضمن هذا العدد الكبير، وذلك بسبب أن اسمي عندما يُكتب كاملا يكون ملفتا للنظر، فاسمي هو (مصطفى مصطفى مصطفى البدري)، لكن لفت نظري هذه المرة أن شخصا آخر يشاركني هذه المزية واسمه (محمد محمد محمد أبو تريكة)، وبالطبع هذا أسعدني أكثر، رغم حزني على الأذى الذي يطال هذا الرجل المحترم وأسرته حيث يُزجّ باسمه في صراع لا ناقة له فيه ولا جمل!!
لم يكن محمد أبو تريكة الذي قارب الأربعين من عمره مجرد صانع لعب في فريق كرة قدم، بل كان ملقبا وسط الجماهير ب "صانع الابتسامة"، ولم يكن مجرد هداف يحسن اقتناص الفرص في مرمى الخصم، بل كان مميزا بإحراز الأهداف في قلوب الجماهير عبر إشاراته وتعبيرات وجهه وتجاوبه وابتسامته اللافتة لكل من ينظر إليه، حتى أطلقوا عليه "أمير القلوب" أو "ساحر القلوب"، وقد أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم أن محمد أبو تريكة هو أكثر اللاعبين شعبية في العالم خلال عامين متتاليين 2007، 2008.
حصل أبو تريكة ابن قرية ناهيا بمحافظة الجيزة على ألقاب وأوسمة شرف رياضية عديدة، منها محلي وإقليمي ودولي، ولكني أعتبر أن أعظم هذه الأوسمة بعد حب الناس له تلك الجدارية التي أعلنت عنها إدارة الشباب والرياضة الفلسطينية عام 2015 وأنشأتها بالفعل عام 2016 باسم محمد أبو تريكة في ملعب اليرموك بغزة، حيث تحمل صورته بقميص "تعاطفا مع غزة"، بالإضافة إلى إطلاق اسمه على إحدى الميادين العامة بقطاع غزة.
وقد كان ذلك تقديرا لموقفه المناصر للشعب الفلسطيني أثناء محاصرته والحرب الصهيونية عليه بداية عام 2008، حيث قام اللاعب خلال إحدى المباريات بإبراز قميص مكتوب عليه "تعاطفا مع غزة" باللغتين العربية والإنجليزية، مما ترتب عليه حصوله على إنذار أثناء المباراة وتحذير بالإيقاف من الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، ولولا التضامن الكبير الذي حصل مع تريكة وقتها لكان قد تم إيقافه بالفعل.
يعتبر عنصر الأخلاق والأدب الرفيع هو الأبرز على الإطلاق في حياة هذا الإنسان النادر، لكنه لم يكن خلقا عاما خاويا من التدين وإبراز الهوية الإسلامية، فقد اختار الرقم 22 لأنه كان رقم الباب الذي خرج منه من المسجد الحرام بعد انتهائه من أداء العمرة في بداية انضمامه للنادي الأهلي، وقد تبرع لبناء مسجدين أحدهما في غانا والآخر في رواندا، كما لبس قميصا مكتوب عليه "فداك يا رسول الله" عند إعادة نشر الرسوم الدنماركية المسيئة لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
وعندما سئل عن سبب إبراز قميص غزة الشهير؟ قال: لم أفعله رياء ولا نفاقا ولم أسعَ للشهرة به في الدنيا ولكن أردت به الأجر والثواب في الآخرة. وقال: إن واجبي الديني يحتم عليَّ ذلك. كما قال أيضا: الشباب المسلم والعربي لازم يفهم أن القضية الفلسطينية هي أول قضاياه. وعندما تم اختياره سفيرا لبرنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة قال: الإسلام يعالج الفقر من خلال الزكاة. بما يعني أن منطلقاته كانت دينية إسلامية في المقام الأول.
أما مواقفه الأخلاقية فهي كثيرة جدا، أذكر منها على سبيل المثال موقفه البارز من حادثة استاد بورسعيد الدامية التي راح ضحيتها 72 مشجع من جمهور الأهلي، حيث حرص تريكة بعد الحادثة على زيارة أهالي شهداء المذبحة ومساعدتهم معنويا وماليا، وأخد اللاعب على نفسه وعداً بعدم اللعب في أي بطولة مصرية محلية لحين استكمال محاكمة جناة الحادث والقصاص منهم. بل قال في حوار صحفي: نعم رفضت مقابلة المشير طنطاوي، لأنني شعرت بأن المجلس العسكري مشارك في الجريمة. ورفض المشاركة في مباراة كأس السوبر المصري وقتها، وبسبب ذلك شن الإعلام هجوما شديدا عليه، وطالبوا إدارة النادي بتوقيع عقوبات قاسية ضده، وبالفعل قامت إدارة النادي بمعاقبته ماليا وبحرمانه من ارتداء شارة كابتن الفريق.
مارس محمد أبو تريكة حقه الطبيعي في المشاركة السياسية، وقام بإعلان انتخابه للدكتور محمد مرسي رئيسا للجمهورية في أول انتخابات حقيقية للرئاسة في تاريخ مصر عام 2012، وبعد انقلاب يوليو 2013 رفض استلام ميدالية أبطال أفريقيا حتى لا يصافح طاهر أبو زيد وزير الشباب والرياضة الذي قام السيسي بتعيينه على إثر إطاحته بحكومة الدكتور هشام قنديل، وقد قيل أنه فعل ذلك لعدم اعترافه بالحكومة، كما قيل أن السبب هو خصومة شخصية بينه بين طاهر أبو زيد؛ وعلى كلٍّ.. فهذا حقه.
ويبدو أن مواقف أبو تريكة الدينية والأخلاقية لم تكن على هوى السيسي وزمرته القضائية، لذلك فقد حاولوا الضغط عليه منذ حوالي سنتين عندما تم الإعلان عن القضية في 2015 لعله يقوم بأي دور -ولو تمثيلي- يؤازر فيه النظام الحاكم في مصر، فلما لم يستجب وظل متمسكا بموقفه (الصامت).. أعلنوا مؤخرا اسمه ضمن قائمة الإرهابيين، مما قد يؤثر على إمكانية عودته إلى مصر حاليا، حيث أنه قد سافر للمشاركة في فعاليات وتحليلات كأس الأمم الأفريقية المقامة الآن.
لم تتوقف ردود الأفعال تجاه هذا القرار الظالم منذ بداية الحديث عنه في 2015 وحتى وقت كتابة هذا المقال، وقد آثرت أن أنقل بعض ما قيل عن محمد أبو تريكة داخل الأوساط الرياضية بعد هذا القرار الآثم. كتب أحمد حسام (ميدو): لا اعرف أَي تفاصيل عن مشكلة أبو تريكة، ولكني أشهد أمام الله أنه واحد من أفضل الشخصيات التي تعاملت معها في حياتي وأنه رجل طيب متسامح مع الجميع. سيد معوض نشر صورة تجمعه بأبو تريكة وكتب عليها: أحبك في الله. أحمد حسن نشر صورة تجمعهما وعلق عليها: بعيدا عن أي انتماءات سياسية سأظل أشهد شهادة أحاسب عليها أمام الله أن هذا الشخص قمة في الاحترام والأخلاق أبو تريكة.
المعلق التونسي عصام الشوالي قال: أبو تريكة رجل كتب تاريخا للرياضة في مصر لا ينكره سوى جاحد، رجل في قمة الدين والأخلاق والتواضع. وأضاف: بعيدًا عن السياسة.. ثروته الحقيقية هي محبته في قلوب الناس فإن تحفظتم على أمواله فهل تستطيعون التحفظ على محبته في قلوب الناس؟ وقال محمود بكر (رحمه الله): لازال يحظى بمحبة وعشق قطاع كبير من الجماهير. وغيرهم كثير ممن رآه وعاشره وعرف إنسانيته وكرمه. فلنعلن جميعا تضامننا مع صاحب المعدن الأصيل والخلق الرفيع والأدب الجم محمد محمد محمد أبو تريكة.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة