مستشارة في شؤون الأسرة
حين كنت صغيرة
كتب بواسطة سحر المصري
التاريخ:
فى : بوح الخاطر
2097 مشاهدة
كنتُ أرى في الزواج لعبة جميلة، فستان أبيض رائع، وكعب عال، وإسوارة من ذهب، وخاتم يلفُّ الإصبع، وحبٌّ يسكن القلب، ومملكة صغيرة يأتي مليكها على حصان أبيض ليعيش مع حبيبته فوق الغيم!
وحين وعيتُ، علمتُ أن الزواج مسؤوليةٌ والتزام، مودةٌ ورحمةٌ ووئام، تفاهمٌ واحترام، مصارحةٌ وتغافلٌ وانسجام، وأنَّ الأرض عنوانه لا الفضاء، ولا أحصِنةً بيضاء ولا "ريش نعام"، فكل ما حفظناه في المسلسلات والأفلام كان نسجاً من أوهام!
حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أرى في الحماة "ماري منيب"، قنبلة ذَريَّة، قوية متسلِّطة، بل قولوا: طاغية! تفتك بقلب العروس التي انتزعت وليدها من أحضانها، وسلبت عقله وألهبت كيانه، فبَعُد عنها ليستقرَّ في بيتٍ آخر وقلبٍ ثان، وهي في محاولات متكرِّرة لنزع فتيل الودِّ بين العروسين وخراب البيت، فحينها فقط يعود إلى حضنها ما استُلِبَ منه!
وحين وعيتُ، علمتُ أن الحماة امرأة ضحَّت وربَّت وطرَّزت قلب وليدها بكلِّ جميل، لينبت في حِجرها ويشتدَّ عُودُه ويقوى، فيُقبِل على الحياة منطلِقاً لقطف ثمارها، فإذ به يبتعد عنها بعد طول قرار، فتفقد لنبضه بالقرب منها فتثور، ويجتاحها حزن عميق ممزوج بفرحة نضجه، ربما قد تسيء التعبير مع الوافدة الجديدة، ولكن إن وعت العروس تلك الحقائق وتكشَّفت لها أسرار الطريق إلى قلب أم الزوج، سيربح البيع مع الله جلَّ وعَلا أوَّلاً، ثم مع زوجها وأهله، فالحكمة هنا لا بد أن تتحلَّى بها وإلَّا، انفرط العقد!
حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أرى في زوجة الأب امرأة قاسية، دَيْدنها تعذيب أولاد زوجها الذين افترقوا عن أمهم قسراً؛ إمَّا بموت أو طلاق، فتعاني منها الفتاة، تهمل الدراسة لتعمل في البيت "خادمة"، ويُقْهَر الأبناء ويُشكَون إلى أبيهم لينهرهم ويضربهم نتيجة تصرف أو سلوك فعلوه أو لم يكن إلا في خيال الزوجة! ولربما أسهمَتْ سندريلا التي أدمنَّاها حين كنا صِغاراً بترسيخ هذه الصورة في عقولنا، وغيرها من حكايا واقعية لأُناس ما عرفوا الله جلَّ وعَلا حقَّ معرفته فظلَموا!
وحين وعيتُ، علمتُ أنَّ في هذه الصورة لزوجة الأب ظلماً كبيراً، فكَم من نساء قبِلن خوض تجربة تربية أولاد غيرهنَّ، فكُنَّ خير أمَّهات واعيات، عرفن كيف يتعاملنَ مع الوضع بحكمة وتعقُّل، حتى في تلك الأحيان التي رفض فيها الأبناء المرأة التي احتلَّت مكان الوالدة في البيت، فكالوا لها واخترعوا مواقف "لتطفيشها"، فتحمَّلت وراعت حتى استتبَّ الأمن والاستقرار في البيت.
حين كنتُ صغيرة..
كان موضوع التعدُّد يثيرني إلى حدِّ الجنون، فكانت صورة الزوج المعدِّد صورةً مشوَّهةً لكائن يسعى وراء الشهوة والماديَّة في العلاقة، فلا يرحم الزوجة التي تحمَّلت شظف العيش معه حين كان يكَوِّن نفسه شاباً، ولا يَزين الأمور بموازينها، ليخرب العلاقة، وربما سيق للطلاق إن رفضت الزوجة الأولى الضرَّة! وبأيّ حال لا يعدل بين الزوجتين فيذر الأولى كالمعلَّقة، وينساق وراء تجديد شبابه مع الثانية.
وحين وعيتُ، علمتُ أن الرجل مخلوق غير سـيِّء إنْ هو قرَّر الارتباط بأُخرى، حتى لو لم يكن هناك سبب "مُعتَبَر" عند الآخرين، فالشرع قد أباح له التعدُّد؛ لأن المولى جلَّ وعَلا أعلم بما ومَن خلق، فجعل الرجل قادراً على حب أكثر من امرأة لحكمة لا يُسأل عنها سبحانه وتعالى، فإن استطاع تحمُّل تبِعات التعدُّد من نفقة ورعاية وعدل فلَه ذلك ولا شيء عليه، ولم يعد في نظري الوحش الكاسر الذي يتخلَّى ويتبلَّى ليتحلَّى!! ولعلَّ حاجة النساء غير المتزوجات لنصف رجل أو ربع رجل أشد خطورة من مشاعر الغيْرة التي تفتك في قلب النساء حين يتزوج أزواجهنَّ عليهنَّ.
حين كنتُ صغيرة..
كان يقشعرُّ بدني من الأرمل الذي يسارع إلى الزواج من أُخرى حالما يتوفَّى الله _ جلَّ وعَلا _ زوجته الأولى، فلا يكاد يمرُّ وقت قصير إلَّا ويكون قد عقد على أُخرى ضارباً بعُرْض الحائط وفاء السنين التي جمعته بتلك الغائبة.
وحين وعيتُ، علمتُ أن الوحدة قاتلة، وأن الرجل بحاجة إلى مَن تساند وترافق وتواسي وتراعي وتلبِّي، وأنَّ حبَّه ووفاءه لزوجته المتوفَّاة ليسا عائقاً أمام زواجه من ثانية تُقيم أمور بيته، وهذا الحبيب عليه الصلاة والسلام قد تزوج بعد أُمِّنا خديجة رضي الله تعالى عنها وأحبَّ عائشة أكثر من أيِّ بشر، وكان مع ذلك يردد أنه قد رُزِق حبَّ خديجة رضي الله تعالى عنها، وكان وفياً لذكراها رغم مرور السنين.
حين كنتُ صغيرة..
رأيتُ الناس تعتبر المطلَّقة فضيحة، وعاراً على الأسرة التي تحويها، وسبباً لهروب المتزوجات خوفاً على أزواجهنَّ منها، وعالةً على المجتمع وعبئاً عليه، وغالباً يحمِّلونها سبب الطلاق، فلو "طحن الملح على ظهرها" كان لا بد من الصبر، تراها تركن في زاوية البيت تبكي ماضيها وتتحسَّر على حاضرها، أمَّا المستقبل فلا نور فيه ولا وجود!
وحين وعيتُ، علمتُ أن المطلَّقة فكرٌ ونبضٌ، تحتاج بعض رعاية ومتابعة قبل أن تنطلق في الحياة من جديد، ومَن حولها هم المساهمون الأساسيون في تحطيمها وتقييدها، أو بثِّ روح الحياة فيها من جديد، وأنها قد تكون ضحيَّة مظلومة في بيت زوجها، ثم في مجتمعها من بعده، وعلمتُ أن لفظ مطلَّقة ليس تهمةً ووصمة عار على جبينها، بل هو دليل نضوب الماء في بيت زوجية ما ارتاحت فيه، فاختارت طريقها بعيداً عنه، أو ربما أذاقها زوجها سوطه دون رغبة منها، ففُرِض عليها اللفظ ونمط حياة جديد لغاية في نفسه قضاها! وتيقنتُ أنه إن عرفت المطلَّقة كيف تستعيد أشلاءها لترمِّم نفسها من جديد؛ فقد يكون ما بعد الطلاق أفضل بكثير من حياة سلبتها النبض والنَفَس!
حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أرى في العشرينيَّة صبيَّة ملؤها الحياة، وفي الثلاثينيَّة نُضجاً وحيوية، وفي الأربعينية بداية الانتكاس، وفيمن بعد ذلك عجوزاً تنتظر الموت!
وحين وعيتُ، وجاوزتُ الأربعين، علمتُ أن هذا العمر قمَّة النضج والعطاء والحكمة، وتوقٌ لشبابٍ راحل، ورغبة في راحة قادمة لا نجدها إلا حين نُسلَّم الكتاب باليمين، ويُقال لنا: ادخلوها بسلامٍ آمنين...
كنتُ أتساءل.. مَن تحب أمِّي أكثر؟!.. أبي.. أخواتي.. جدتي.. جدي.. أم أنا؟! كان حُبِّي لها كبيراً حتى تكاد تكون محور عالمي كله.. وكنتُ أحلم أن أكون لها كذلك، وأن تحبني أكثر من أي كائن على الأرض.. حتى أبي!
وحين وعيتُ..
عرفتُ أن لكلِّ شخص نوعاً من الحُب مختلف.. فحُب الزوج نوع.. وحُب البنت نوع.. وحُب الأم نوع.. وحُب الإخوة نوع.. وهكذا.. ومجرد مقارنة نوع بنوع هو محض سذاجة.. كمن يقارن فاكهة بخضار! ولكلٍّ طبيعة ونكهة!
حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أظنُّ أن غيرة النساء تمتد لتقضم قلب الزوجة الثانية لرجل أرمل.. فإن أتى على ذكر زوجته الأولى التي توفَّاها الله تعالى اهتزَّت وانتفضت واستشاطت غضباً من غيرتها.. فلا ينبغي أن يتربَّع على عرش قلبه سواها!
وحين وعيتُ..
عرفتُ أن الأرمل الذي ينسى زوجته الأولى ولا يذكرها ويثني على محامدها ليس من الوفاء في شيء.. وكما نسيها فسينسى الأُخرى.. وعرفتُ أنه جميل أن تذكر الزوجة الثانية مَن توارت في الثرى إن أحبَّت زوجها.. فتلك قد رافقته سنين وخدَمته واستوصت به خيراً.. فمِن حقها أن تكون حاضرة في الوجدان وهي أختها في الله أوَّلاً وآخراً.. فلسفة قد تغيب عن كثير من النساء إذا تحكَّمت الغيرة أو أمراض القلوب!
حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أعتقد أنَّ الداعية لا تنزل إلى ميدان الدعوة إلَّا حين تكون مكتملة الخصائص والمزايا والعبادة والعلم!
وحين وعيتُ..
عرفتُ أن كل إنسان هو داعية في أقواله وأفعاله ومعاملاته.. وأن عليه تبليغ ما يعلم ولو كان آية واحدة أو حديثاً.. على أن يستزيد من العلم في كلِّ حين ليسمو ويرقى..
حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أعتقد أنّ السعادة في الحياة الزوجية مقترنة بالأشهر الأولى.. حتى إذا ما غاب وهج الجمال فيها ووصل كل طرف لما يبغي من الآخر مادِّيّاً فَقَدَ شهيَّته وانزوى! وحينها تبدأ المشاكل بالنمو والتعاظم وتفقد العلاقة بريقها..
وحين وعيتُ..
عرفتُ أن السعادة شعور داخلي ينبع من الرضى والقناعة والتقبُّل.. وأن على الزوج كما الزوجة العمل على تحقيقها والثبات عليها.. وهي ليست بضاعةً مزجاة في سوق بخس.. وإنما على المرء أن يعمل جاهداً للحصول عليها ويبذل من نفسه وجهده ووقته للحفاظ عليها..
حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أنظرُ لرجال الدِّين أنَّهم مؤتمنون عليه، انتُدِبوا ليؤمُّوا الصلوات، ويتكلموا في الشرائع فيرشدوا ويوجِّهوا، ويُعظِّموا شعائر الإسلام، ويكبِّروا الحق في صدور المسلمين.
وأنَّ كل صاحب "طربوش أحمر" ملفوف بقماشة بيضاء هو رمز للنصاعة والخضوع الكامل لله جلَّ في عُلاه، ولا يرضى أن يكون تابعاً لجهة سياسية أو مرجعية حزبية، وإنما هو "حر" قلبه طليق في فضاء الله محاط برعايته!
وحين وعيت..
علمتُ أن فكرة استحداث طبقة رجال الدِّين هي دخيلة على الإسلام! فيُفترَض أنَّ كلَّ مسلم هو داعية إلى الله عزَّ وجَلَّ، في سكناته وحركاته وهمومه، وعلمتُ أن الأمَّة ما تدهور حالها إلى هذا الدرك إلا حين استبدل بعض العلماء الذي هو أدنى بالذي هو خير، فباعوا دينهم بترقيع دنياهم.
وعلمتُ أنه حين يتلقَّى أصحاب العمائم التعليمات والأموال من حزب أو تيار يسعى لمصالحه ويصبحوا أجراء عند مَن لا يُقيمون للدِّين وزناً، عندئذٍ تضيع العهود وتتحكَّم القيود على العقول قبل الأيدي والأرجل، ويصبح "الحُر" أسيراً للهوى.. فيهوي!
حين كنتُ صغيرة..
كنتُ لا أفرِّق بين نظام وشعب، فحين كانت تُذكَر سوريا كنتُ لا أطيق سماع اسمها، بعد أن عربد نظامها الحاكم في بلدي دهراً، وخاصة في منطقتي التي اعتبروها مقاطعة ضمّوها لخريطتهم، فظلموا العباد، وتجبَّروا واغتصبوا الأرض والعِرض، حتى سكنتني الكراهية والحقد الأسود عليهم.
وحين وعيتُ..
تغيَّرت نظرتي وفهمت! لقيتُ رجالاً شُمّ الأنوف بِيض القلوب مؤمنين حقاً، ونساء عاليات الجبين شامخات راقيات مؤمنات صدقاً، انسلخوا عن سوريا إبَّان مجزرة حماة في أوائل الثمانينيات، وباتوا "لاجئين" مشتَّتين في البلاد، يعيشون غربة قاسية تسطِّر على جباههم في كل يوم مرارة الظلم وفي قلوبهم شغف العودة! وعلمتُ حينها أن النظام شيء والشعب شيء آخر، وأنَّ ما عانيناه في لبناننا هو امتداد للقهر الذي يعانيه الشعب السوري، فاقتلعتُ من نفسي جذور الكراهية ونثرتُ بذور الحب والتودُّد، فنحن في الهمِّ سواء، ونتطلَّع جميعنا للخلاص!
حين كنتُ صغيرة..
كنت أقرأ عن الثورات وأُفتَن بإنجازاتها وبأثمان الحرية التي دُفِعَت، ابتداءً من الثورة الفرنسية مروراً بالثورة الجزائرية التي قامت ضد المحتل الأجنبي وراح ضحيتها مليون ونصف مليون شهيد، ووصولاً إلى ثورة الحجر في أرض الرباط المباركة التي أرهبت المحتل وهزَّت كيانه!
ثم كنتُ أرى الذل والهوان يسكنان النفوس في بلاد العرب التي يحكمها الطغاة، فيصيبني غمٌّ وتسكنني أعاصير تنتشل كل معانٍ للراحة، فمتى يزهر الوعي في بلاد العرب "حرية"؟!
وحين وعَيت الشعوب..
اهتزت ورَبَت وأنبتت حرية! في بلاد تحطَّمت فيها القيود وأُخرى تنتظر!
اندلعت الثورات في تونس الخضراء، لتتبعها ليبيا ومصر واليمن، ولكن بقي مجرد التفكير في أمر اندلاعها في سوريا ضرباً من الخيال، ليس لفقدان الشام رجالها، وإنما لأنَّ اندلاع الثورة ضد أعتى نظامٍ وحشيٍّ يعني القتل والسحل والتنكيل والتهجير والاغتصاب! وقد كان! تنفَّست سورية نسائم الحرية فثارت أرض الياسمين، وتحوَّل الدم زيتاً يُسرِج فتيل الثورة، ومهما طال الأمد فللباطل نهاية حتمية وإن تعاظمت التضحيات، والحرية تستحق لأنها منحة الله ونعمته العظمى للإنسان!
حين كنتُ صغيرة..
كانت أدوات النضال بنظري رصاصةً تخترق قلبَ المعتدي، أو حزاماً ينسف الظالم ويُحيله أشلاء مبعثرة،
وحين وعيتُ..
علمتُ أن أدوات النضال كثيرة كثيرة! تبدأ بما يتوفَّر بأيدي المجاهدين ليواجهوا بها الظلم ويتحدّوا المحتل!
وما زلت أكبَر، وأَعي، وأتعلَّم، وأتلمَّس الخُطى، في دروب الحياة.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة