الأم رمز الحنان والوفاء والعطاء
كتب بواسطة د. محمد عبد القادر عطوات
التاريخ:
فى : بوح الخاطر
3214 مشاهدة
الأمُّ هي أقرب الناس إلى القلوب وأغلاها، وكأنها الدنيا كلها، ولمَ لا ؟ أليست هي سبب وجود كلٍّ منا، ولذته في حياته، ورفيقة أحزانه، وحافظة عهده، ومطيبة سهده، وهادية رشده؟
أجل، إنَّها تلازمه، فتطعمه، وتداويه إبان مرضه، وتحنو عليه بعطفٍ ولطف، ولا تهنأ إلَّا بشفائه، وتبتسم له الدنيا إذا ابتسمت له، ولا تنفك عن العناية به ما دام حياً، وهي تفرح لزفافه، وتعتني بأطفاله، وإذا هرمت تستمر في الدعاء له، ومن غير شك إنها رمز الوفاء والعطف والحنان. ولعظمة وأهمية رضاها على أبنائها قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا)).
والابن البار هو الذي لا ينفكُّ عن طاعة والدته وخدمتهما في كل حين، صغيراً كان أم كبيراً، غنياً أم فقيراً، وضيعاً أم عظيماً، وهو لن يستطيع أن يفيهما حقهما أبداً، لأنهما سبب وجوده، وفجر آماله، وشمس إرشاده، وضياء أفكاره، ومغرب شقوته، وقطب أفراحه، ومسك ختامه.
قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
وقد أوصى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالأم خيراً، وأشاد بها كثيرٌ من العلماء والأدباء، ولا سيما الشعراء في قصائدهم، في مناسبات عديدة، وبيَّنوا أنها تشارك الرجل في أعماله ونضاله في كلِّ الميادين وفي مختلف الظروف، دون كَللٍ أو مَلل.
وفي حفل أُقيم بمدرسة للبنات عام 1910م بمدينة بور سعيد قال حافظ إبراهيم في قصيدة "تربية البنات":
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَّهـــــا أَعدَدتَّ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيــا بـــــِالرِّيِّ أَوْرَقَ أَيَّمـــــا إيـــراقِ
الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلــَى شَغَلَت مَآثِـــرُهُم مَدَى الآفـــاقِ
وفي قصيدة "إلى أمي" يقول محمد درويش: محاولاً أن يبرَّ أمه بخدمة ما:
خــــــــــذينــي إذا عـــدت يومــاً وشـاحاً لـــهدبك
وغطّـي عظامي بعشبٍ تعمد من طهر كعبك
وشــــــــدّي وثــــــاقــــــــي بــــخصــــــلــــة شَـــعـــــــــرٍ
بــــــخيــــــــط يــلـــــــــوح في ذيـــــــــــــل ثـــــوبــــــــــك
ويطلع علينا الشاعر الشهيد كمال ناصر بنمط جديد من الآراء، لكنَّه منهج أصيل في شعبه، حيث لم يمتثل لطلب أمِّه عندما أرادت أن تثنيه عن الذهاب إلى المعركة مع العدو الصهيوني خوفاً عليه، ويبدو أنه كان منسجماً، ولو مصادفة، مع قول النبي [: ((لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخالق)) (رواه أحمد)، ففضَّل أمر الله وطاعته وتوجَّه إلى المعركة، يبغي النصر أو الشهادة، وقال في قصيدته "إلى أمي":
والأم لا تهنأ إلا بهناء ابنها، ولا تتوانى عن العناية به وخدمته بما تستطيع. ومهما قصَّر بحقِّها ومهما تغضب عليه فقد تسامحه ولا ترضى بعقابه ولو كان ذلك بشأنها، فما أعظم حنانها، وأوسع قلبها، وأعلى شأنها وأكبر أجرها.
وحتى في صنوف الحيوانات نرى الأم تحنو على صغارها وترعاهم وتدافع عنهم، وتقطع الكثير من الطيور مسافاتٍ لتأتي بالطعام إلى فراخها، وفي صيف إحدى السنوات الماضية شاهدت قطة تتمدَّد على البلاط الساخن، بينما تضع صغارها في صندوق كرتون منقلب على جانبه لا يدخله ضوء الشمس، فتوقفتُ متأمِّلاً صنيعها بإعجابٍ وذهولٍ، كيف لا، والدليل واضح بأن قلبها يمتلىء بالحنان والرحمة. أجل، إنَّها أُمّ، إنها منبع العطف والحنان..
ولا تنحصر مهامُُ الأم ودورها مع أبنائها فقط، بل إنها تقوم بمعظم الأعمال التي يقوم بها الرجال خدمة للشعب والوطن، فمنهن الوزيرة والنائبة والطبيبة والمهندسة والمعلمة والكاتبة والممرضة، وغير ذلك، وكثيراً ما تتفوق إحداهن على رجل يشغل نفس العمل، وصَدق الشاعر الذي قال:
أوجب الواجبات إكرام أمي إن أمي أحق بالإكرام
ويصدق أحياناً قول القائل: إن وراء كل رجل عظيم امرأة (يقصد عظيمة)، أجل، فعبد الله بن الزبير أمّه أسماء بنت أبي بكر "ذات النطاقين"، والشهداء الأبطال الإخوة الأربعة في معركة اليرموك هم أبناء الخنساء، وعمر بن عبد العزيز هو حفيد تلك الفتاة التي سمعها سيدنا عمر بن الخطاب ترفض طلب أمها بخلط الحليب بالماء، وتُبيِّن لها أن الله يسمع ويرى. وتدفعني نزعة العدل إلى القول بأن الكثير من الشهيرات هنّ بنات رجال عظام أيضاً، فالسيدة فاطمة رضي الله عنها هي ابنة النبي محمد محمد صلى الله عليه وسلم ، وعائشة أم المؤمنين وأختها أسماء رضي الله عنهما هما ابنتا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحفصة رضي الله عنها هي ابنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهكذا...
ومن العدل أن نشير إلى شهرة نساء لم ينحدرن من أمٍّ مشهورة أو أبٍ مشهور، وبرزن في عدَّة مجالات في وطننا العربي: فهذه زنوبية ملكة تدمر، وكليوباترا في مصر، والخنساء وخولة بنت الأزور في بلاد الشام، وهؤلاء البطلات المقاتلات جميلة بوحيرد في الجزائر، وليلى خالد ودلال المغربي في فلسطين، وغيرهن كثيرات، لا سيما في هذا العصر، في مختلف الاختصاصات، وفي مقدمتها الطب والهندسة والدفاع عن حقوق الإنسان والمؤسسات على أنواعها... إلخ.
والواقع العربي يؤكِّد أننا بحاجة إلى إصلاح واسع يبدأ بالفرد _ ذكراً أو أنثى _ وكم نحن بحاجة إلى أمٍّ صالحة تقية مثقفة، تحسن العمل والمعاملة، وبقدر صلاح الفرد يصلح المجتمع والعكس صحيح...
وخلاصة القول: إنَّ الأم ترعى شؤون أسرتها ووطنها، باذلةً أقصى الجهود المخلصة، وتقدِّم التضحيات الغالية بمالها ونفسها إذا دعت الحاجة، والجود بالنفس أسمى غاية الجود، وعلى هذا فهي جديرة بالحب والتقدير والاحترام والوفاء والتشجيع، ومهما خدمناها لن نفيها حقها، ونحن بحاجة إلى كسب رضاها، وما أسعدنا بالفوز برضاها، بل برضى الوالدين، فهي أمُّ الدنيا وأساس تقدمها ونجاحها وسعادتها...
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة