كاتبة ومدققة لغوية
أما وأمتنا ثكلى فلا فعيد
يشقّ علينا وداعك يا رمضان الحبيب، فبقدومك فرح المسلمون الأتقياء العابدون وتنافسوا في طاعة الله، وتسابقوا إلى الأعمال الصالحات، فأحسنوا صيام أيّامك وقيام لياليك وتلاوة القرآن، وجادت نفوسه ببذل الصدقات، وإطعام ذوي الحاجات، والتوسعة على الفقراء والمساكين. أيها الشهر العظيم لقد سرت بنفوسهم وقلوبهم إلى معارج السموّ الموصل إلى الله تعالى. صدقوا في طاعة الله، وأخلصوا له عند حلولك، وبذلك كنت المشارك الأكبر في تزويدهم بشحنات روحية هائلة يستقبلون بها عاماً بكامله، وفي تربيتهم على أهم الفضائل الخلقية كالصبر والحلم وعلى المشاعر الجماعية النبيلة مثل التعاون والتكافل والإحسان.
هذا هو حال الصائمين الأتقياء العابدين، فهل هو حالنا جميعاً؟ وهل استفدنا من موسم هذا الشهر العظيم في صفاء النفوس والأفكار والقلوب، ووحدة السلوك على شريعة الله؟ هل خرجنا من مدرسة هذا الشهر أحسن حالاً، وأقوم سلوكاً وأكثر يقظةً، وأعظم قوةً، وجمع شتاتاً؟
فقير فقير، ومسكين مسكين: من مرّ عليه ذاك الموسم العظيم ثم لم يستطع أن يظفر بمغانمه إهمالا وكسلاً، أو جنوحاًً وانحرافاً، أو جحوداً واستكباراً.
والواقع أنّ وطأة غياب شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار قد خفّفتها فرحة عيد الفطر، كيف لا وقد نال الصائمون فرحتهم الصغرى التي وعدهم بها الرحمن عند فطرهم، ونجدهم ينتظرون بلهفةﹴ وشوق فرحتهم الكبرى عند لقاء ربهم. إنه العيد، إنه فرحة المسلمين الكبيرة بانتصار إرادتهم الخيِرة على أهوائهم وشهواتهم وعلى شياطين الإنس والجنِ، عقب تأدية عبادة عظيمة لله عز وجل.
وإذا كان المسلمون قد احتفلوا ببهجة العيد وسروره فلبسوا أجمل الثياب وتطيّبوا بأطيب الطِيب وخرجوا مكبّرين مهلّلين فوزّعوا الصدقات، وجدّدوا أواصر الحب بين الأصدقاء والتراحم بين الأقرباء، ونزعوا الضغائن من القلوب فصفت بعد تكدُر، واشتركوا جميعاً- شرقاً وغرباً من مختلف اللغات والأقوام- بالفرح والسرور في وقتﹴ واحد... ولكن، هل هذه هي كل معاني العيد؟ وهل العيد تعاون بين الناس في المدينة الواحدة فقط، وهل هو تجديد للصلة الاجتماعية بين الناس في المنطقة الواحدة فقط؟ وهل هو تذكير أبناء البلد الواحد فقط بحق الضعفاء والعاجزين عليهم؟.
إنّ له أيضاً بعداً أعمق من ذلك، إنه يذكِر بمصائب وكوارث ونكبات المسلمين في جميع الأقطار. إن الأقصى جريح وإنّ أطفال فلسطين والعراق وكشمير قد حرموا لذَة العيد، وإن الأوضاع في كثير من بلاد المسلمين سيئة ومتخلّفة، والفساد والظلم والاستبداد السياسي والفوضى الاجتماعية أضحت سمات بارزة لكثير من البلدان الإسلامية، فهل كان لنكبات إخواننا من تفكيرنا وأفعالنا وأموالنا في رمضان والعيد نصيب؟ هل اقتصدنا في لهونا لنوفّر من ذلك ما تحتاج إليه أمّتنا في صراعها الدامي المرير؟ هل تحدّثنا عن نكبات إخواننا وجهادهم بما يقوِي العزائم ويبسط الأيدي بالبذل والعطاء والفداء؟ هل اقتصدنا في ضحكنا تعبيراً عن مبلغ عنايتنا بقضايانا، واهتمامنا بما يجري في وطننا الكبير من أحداث ونكبات؟ إننا نردّد مع الشاعر:
عيدٌ سعيدٌ... نعم... لو أمّتي انتصرت أمّا وأمّتنا ثكلى فلا عيد
وعلى أيّ حال فإن السؤال الكبير هو:
ماذا بعد رمضان والعيد؟
لئن زكت نفوسنا وحلّقت في العلوّ، وقمنا بواجب الأخوة الحقّة في رمضان، فإنه ينبغي الاستمرار على هذه الحالة الحسنة الفاضلة التي اكتسبناها في هذا الشهر للعمل الدائب المستمر.
فواجب علينا بعد رمضان المداومة على الأخلاق الحميدة، ومراقبة الله عز وجل، والاستمرار بالعبادات المزكِية للنفوس من صيام تطوع وصلاة ليل وتلاوة قرآن وذكرﹴ لله دائمﹴ في القلب وعلى اللسان، ولا ننسى لذة التغلّب على وساوس الشياطين في رمضان بسبب تصفيدها إكراماً من الله تعالى لهذا الشهر الفضيل وللصائمين. فهل سنجعل للشياطين علينا من جديد سبيلاً؟ فلنخلص النية لله تعالى ولنعمل عملاً دائباً، ولنشمّر، فإن الله لا يجعل للشياطين على المؤمنين العاملين سبيلاً.
وواجب علينا بعد رمضان استدامة تذكُر جوع الجائعين ولوعة الملتاعين وعبرات البائسين، فرسول الله ﷺ يقول:"ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم" رواه البخاري.
وواجب علينا بعد رمضان تهيئة أنفسنا وجيلنا للفداء، وأيدينا للعطاء، وألسنتنا للدعاء، حتى نتمكن من انتشال أوطاننا الرازحة تحت أقدام الغزاة المتوحشين الذين غزوا بلادنا أو أخلاقنا أو أفكارنا ومعتقداتنا، أو الكلَ في آن.
إيمانٌ راسخ، ونفحاتٌ رمضانية، وعقول مدبّرة، وأيدﹴ حديدية، وصلابةٌ صدِيقية، وشجاعةٌ عمرية، وجود عثماني، وزهدٌ علويّ، وتعاطف أخوي: هي وحدها الكفيلة بانتصارنا على أعدائنا.
اللهم أعد علينا شهر رمضان المبارك وقد شتَتَ شمل الأعداء ونكَست أعلامهم وضربت بعضهم ببعض وأنزلت عليهم غضبك ونصرتنا عليهم نصر المؤمنين المجاهدين. آمين الله آمين.
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة