خطاب استعماري بغلاف ديني للمزيد من التجهيل
في يوم 21 ديسمبر 1798، ارتدى نابليون بونابرت ثوب الواعظ، ووجّه منشورا إلى المصريين، بعد أن أخمَد ثورة القاهرة الأولى، يُذكّرهم بأن احتلاله بلادهم هو من قدَر الله وأنَّ عليهم الرضا به، ومما جاء في نصّ المنشور الذي أورده هيرولد في كتابه «بونابرت في مصر»: «أيها العلماء الأشراف، أَعْلِموا أمَّتكم ومَعَاشِر رعيَّتكم بأن الذي يُعاديني ويُخاصمني إنما خِصامه من ضلال عقله وفساد فِكْره، فلا يجد ملجأً ولا مُخلِّصاً يُنجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من بين يدي الله، لمعارضته مقادير الله سبحانه وتعالى، والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى وإرادته وقضائه».
خطاب استعماري بغلاف ديني، لم يكن القائد الفرنسي لِيستخدمه لولا أن الوعي الجماهيري المُتردّي يسمح بترويجه، حيث غلبتْ في تلك الفترة أفكار التصوف المُغالية المتخبّطة في تفسير الدين، فلا نتعجب إذا رأينا من يُواجه الغُزاة بحلقات الذكر والرضا بالاحتلال، باعتباره من قدر الله لا يجوز السخط عليه، أو الاكتفاء بتحميل الشعوب المسؤولية، بسبب ذنوبهم ومعاصيهم.
وبينما أُقلِّب النظر في الصحف والمواقع المصرية على عادتي، طالعت خبرا أعاد إلى ذاكرتي ما قرأتُه عن منشور بونابرت إبان الحملة الفرنسية على مصر، الذي استخدم فيه الدين لأغراض استعمارية.
مضمون الخبر كان تعليقا لأحد رجال العلم على فضائية مصرية على موجة الغلاء الجديدة، التي اجتاحت مصر بعد رفع الحكومة أسعار الوقود، حيث أكّد الشيخ أن ذلك الغلاء بسبب ذنوب الناس، وأن عليهم أن يتوبوا ويُدركوا أن أي أزمة تحصُل في بلدهم هي بسبب تقصيرهم، وينبغي عدم إلقاء التبعة على الدولة، ناصحا إياهم بالانشغال بالعبادة وترك هذه القضايا لولي الأمر.
هو الخطاب ذاته البونابرتي في شكل جديد، يدعم هذه المرة الاحتلال الداخلي المُتمثِّل في النظام القمعي الذي جوّع الشعب وحاربه في قوت يومه، من خلال سياساته الأمنية والاقتصادية التعسُّفية.
هو الخطاب التخديري ذاته، الذي يُحمِّل الشعوب المسؤولية عن الخراب، دون الإشارة لسوء الإدارة وعبث الحكومات، هذا الخطاب هو أقرب إلى الخيانة وبيْع الشعوب لصالح حكامها باسم الدين. ولله دَرُّ المفكر الإسلامي الراحل محمد الغزالي إذ يقول: كل دعوة تُحبِّب الفقر إلى الناس، أو تُرضّيهم بالدون من المعيشة، أو تُقنعهم بالهون في الحياة، أو تُصبّرهم على قبول البخْس، والرضا بالدنيِّة، فهي دعوة فاجرة، يُراد بها التمكين للظلم الاجتماعي، وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فرد أو أفراد، وهي قبل ذلك كله كذب على الإسلام وافتراء على الله. وبذلك المنطق الفاسد الذي سلكه ذلك المحسوب على الدعاة والعلماء، يتم قطع الطريق أمام الاعتراض على الأوضاع الجائرة، والقرارات المستبدة والفساد الإداري، وتحميل الأقدار التبعة. العالِم الذي يتذرَّع بالأقدار في فساد الأوضاع الاقتصادية، أشبه بمن يُجيز لنفسه ولغيره ارتكاب المُوبقات بدعوى أنها قدر مكتوب.
وهكذا يتم التكريس لتفسير الأزمات تفسيرا غيبيا يُتخرّص فيه على القدر،
ويُغيَّب جوهر الفكرة الإسلامية التي تأمر بالتعاطي مع الأسباب ومعالجتها.
ونحن – كمؤمنين نوقن بالقرآن وصحيح السنة – نوافق الشيخ في أن ذنوب العباد جزء من المشكلة، وأن لها تأثيرا على واقعهم وحياتهم، ولكن أليس ظلم الحكام والكبراء من أعظم هذه المعاصي، فما بال الرجل قد سكت عنها؟
شيء جيد أن يأمر الشيخ المجتمع بالتوبة، ولكن ماذا عن توبة أولي الأمر من سفك الدماء واعتقال عشرات الآلاف بغير وجه حق، وتكميم الأفواه، وتبديد الأموال في مشاريع وهمية على سبيل الدعاية للنظام؟ أليست هذه من جُملة الذنوب التي تحتاج إلى توبة؟ الشيخ تعمَّد تغييب حقيقة الدين من أن عموم المشيئة الإلهية لا يعني عدم تحميل إرادة البشر مسؤولية ما تقترفه، وإلا فلماذا لا يتذرَّعون بالأقدار في محاكمة المجرمين والمخربين؟
إن التذمَّر من تحويل أموال الدول إلى الفاسدين وتجاهُل الطبقات الكادحة التي تزرع ليحصد غيرها، ليس من قبيل التشغيب على تعاليم الدين والسخط على أقدار الله، وإنَّ إقحام الذنوب والمعاصي في قضايا الفساد المالي والخلل الإداري لاقتصاد الدول، هو نوع من المتاجرة بالدين لصالح الأنظمة والحكومات، لوأد أي تطَلُّعات لاسترجاع الحقوق المسلوبة والثروات المنهوبة.
ربما تزول الدهشة عندما نعلم أن الحكومات والأنظمة على مر العصور، قد رحبت بالأفكار الصوفية الدخيلة، التي تُرغّب الناس في العُزوف عن مُتع الدنيا والإقبال على الزهد فيها (بمعناه الزائف) وتُحبِّب الفقر والضياع المالي إلى نفوس الشعوب، لأن هذه الأفكار التي لا تمُتُّ للإسلام بصلة، تُوافق أهواء
الحكام والمستأثِرين بالأموال، وتحجُب عن الشعوب حقيقة مصارف ممتلكات الأمة ومُقدّراتها. هذا الخطاب الذي يَستخدم الدين لتبرئة ساحة المسؤولين عن الفساد والفقر، هو الخطاب ذاته الذي استُخدِم من قبْل في تبرير الغزو والاحتلال، من قِبَل أدعياء العلم من أذناب المستعمرين وأبواقهم، الذين لبّسوا على الناس في مسألة الإرادة الكونية والشرعية، وأوهموهم بأن الاستسلام للغزاة أو الفقر والمرض والأزمات هو من باب الرضا بقضاء الله، مع أنَّ الأمر الشرعي جاء بدفع العدو وعلاج المرض ومواجهة الفاقة.
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة