إلى كل الأمهات اللاتي يشبهنها
أحبك كما أنتِ،وردة في غُرّة العمر ، أو عمرا في غرّة وردة، أحبك كما أنتِ .. في السبعين كنت أم في الستين، في الخمسين كنت أم في الثلاثين..المهم أن تبقي أنتِ كما أنتِ، تملأين الدار علينا وتلمّينا كل مساء ..
لا أطالبك بالكثير ، أريدك أن تبقي أنتِ كما أنتِ..صوتا بحّهُ الهديل لكنه يسمعنا صرير أبواب السماء..وأنفاسا محاطة بالطمأنينة تماماً كمقامات الأولياء..ووجها أقرأ منه سورة الفاتحة وأتقن فيه التشكيل والترتيل..أريدك أن تبقي أنت كما أنت، أمّاً تزداد عظمتها كلما رقّ جلدها أو وهن عظمها..
لو ان العمر يُغسل - يا أمي- فيعود الشباب ..لغسلت عمرك في ماء روحي وأعدتك كما كنتِ..
أتذكّر أحياناً، دخنة (الطابون) ،ووجهك الأحمر اللامع في عتمته كقمر تشرين،أتذكر أحياناً كيف كانت تصافح أكفّك الجمر لتطعمنا ، وتهادن النار لتنضج لنا رغيفاً يكفينا ساعات المدرسة..أتذكّر كيف كنتِ تقارعين لقن الغسيل طوال النهار..ثم تسنديه على ظهر الجدار ليرتاح ، أما أنت فقد كنت تنصرفين الى تعبٍ آخر، الى تعليق دالية، أو ترميم سقفٍ،أو تصغير سروال، أو تلحيف غطاء ..
أتذكّر كثيراً ، عجنة المساء وخبز الشراك، وحكاوي الليل والمطر: العجوز الزغيرة، خنيفسة، أبو الفول، قد شيحان وقد ريحان ، أتذكّر ، تلك الجدائل الملونة ببقايا حناء قديم ،كما أتذكّر الحطب المبتل الذي كنّا ننساه ليلاً خارج الطابون..أتذكّر عريشة الطين وبيتنا الغربي المسطّر بقضبان القصّيب الداكن ، وبيت الميرمية الكثيف الذي كنت ترعينه، والمزراب الطويل النازل بين بابين ، وماء الشتاء الذي كنّا نخزّنه للشاي ولطبخات العدس، أتذكّر الدلف وصحون الألمنيوم ، وجسور الحديد التي تمتن السقف ، والشباك المدهون في الأزرق غداة غارة جوية حلقت في التاريخ..أتذكّر دموعك التي كانت تنهمر كلما وصلت رسالة من أخي محمّد أو غنّت هيام يونس يا حبيب الدار ..أتذكّر كيف كنت تجعلين من اللاشيء شيئا..فيصبح الشيء عضواً في الدار وأداة للحياة..
أتذكّر كيف كنت تعشقين أبي وتلوذين بصمتك البسيط كلما غاب..تسمعين نقراً خفيفاً فتظنين أنه في الباب..فتكون دعابة الريح أو كما تغني فيروز.. كنت أشتمّ رائحة اشتياقك يا أمي كما اشتم رائحة القهوة المسكوبة على النار، كنت أشكل حبّات القلق التي كانت ترقص في عينيك كل مساء ..وأحتمي فيك كمعبد؛ أصلي،اسبّح، أدعو، وأنام دون أن أكبر..
أحبك يا غالية ، يا نوّارة السبعين.. أحبّك بالشنبر والثوب الأسود،بسجادة الصلاة الممدودة عند كل صلاة، بورقة الروزنامة التي تزيلينها بعد كل ضحى ..بالمسبحة التي لا تكف عن الدوران ، واللسان الذي لا يغفل عن التسبيح، "بالباكور" المسنود قرب الباب، وبكيس "الفراطة" التي تغدقين بها على الصغار..
أحبك كما انتِ..فما تزالين أمّاً قوية ، تحطب الوقت ، وتشعل العمر هناء..صدقيني انتِ كذلك ، برغم كل حبوب الأنسولين،واللوبيد،والأسبرين، والموتيلات، والبيبتازول، والمنظمات برغم قطرات العيون ومواعيد المراجعات.. لا زلت تغطيني كلّما كشفني ضعفي..وتنضجين لي رغيفاً عاجلاً من طهارة يديك..و ترقعين لي عمري المثقوب بالانكسار..
أمّي.. أحبك كما أنتِ
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة